حوار مع بلطجي
بقلم/ فكري القباطي
نشر منذ: 12 سنة و يوم واحد
الأربعاء 21 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 10:52 م

قال لي صديقي ( البلطجي ) بلهجةٍ تفوحُ منها رائحة التهكم والتشفي :

الآن أدركت لماذا تفشل كل الثورات في اليمن ..

‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘

قبل ذلك كنا نتحدث عنِ المصطلحات السياسية الجديدة التي ظهرت في اليمن بعد الثورة مثل ( يساريون شيعة وشيعة يساريون وليبراليون متطرفون ووسطيون بلا وسط وأحزاب معارضة في السلطة وثوار انقلبوا على الثورة وتحالفات خُرافية - لم نسمع عنها حتى في ترافيان - بين لادينيين ومتطرفين دينيين .. ) !!

طبعاً لم نتطرقَ إلى تلكَ الاجتماعاتِ السريةِ التي عُقدتْ في غُرف مُغلقة بين حليفٍ بلغَ بهِ التطرفُ حد جلد كل من يثبت عليه سماع أغنية وحليفٍ اشتُهرَ بأنه ( يتغدى ويتمرق ) بالخمر لأن التطرق لمثل هذه المسائل ستُثير مسائل أخرى بالغة الحساسية مثل المولود الذي سينجمُ عنْ مثل هذا التزاوج المزدوجِ بينَ طرفينِ لم يصليا يوماً طلباً للمغفرة وهل سيكون المولود وطناً أم وثناً !!

كان صديقي البلطجي في خضمِّ هذهِ التناولاتِ المثيرة ( لأغربِ تحالفاتِ العالم ) بعد ثورة التغيير يضحكُ بين تارةٍ وأخرى وببجاحة المتشفي ولكن كبريائي لم يسمحْ لي أن أذرف دمعةً انكسارٍ واحدة أمام هذا الخصم - المتغطرس - والذي ظل يحلف ويقسم ويبصم منذ بداية الثورة أن حلفاءَ الثورة عبارةٌ عن مسبحة بيد - مطوع منحرف - وستنفرطُ بعد إتمامهِ شعائرَ صلاة الجنازة على شهداءِ الثورة ..

لكن صمودي أمام هذا البلطجي الشرس انكسرَ تماماً عندما تطرقنا لأهم المكاسب التي حققتها الثورة - بالنسبة له - والتي فاحت روائحها النتنة من ذات الحليفين المتطرفين من خلال إثراء الساحة السياسية

والثقافية والفكرية لأول مرة في تاريخ اليمن بـ كتاباتٍ تمسُّ الذات الإلهيةِ بـ ألفاظٍ ومصطلحاتٍ نخجل أن نخاطب أنفسنا بها من الحليف اليساري المتطرف وألفاظٍ تسيء إلى الصحابة الكرام بل وتمس عرض النبي عليه الصلاة والسلام طفت على السح من الحليف اليميني المتطرف لتُشكلَ هذهِ الانحرافاتِ الدينيةِ والفطرية الشنيعة والمريعة نقطة ارتكازٍ ينطلقُ منها ( حلف السفهاء ) في إبرام وثيقة التحالفِ التي

يبدو أن أهم بنودها تنص على أن حرية السب والتسفيه والشقدفة والكفر والانحلال حق مكفول لكل يمني كـ شرط رئيسي لقيام دولة مدنية حرة باستثناء الثوابت التي يُعتبرُ المساسُ بها كفراً بواحاً يُعاقبُ عليهِ القانون والمتمثلة في ( الخميني قدس الله أمه ، وكارل ماركس ، وجمال عبد الناصر ) رضي الله عنهم وأرضاهم والعياذ باللهِ من كل لا يهواهم ..

انعطفنا بعد هذه العلقةِ الساخنةِ التي تلقيتها من صديقي البلطجي إلى أهم أسباب قيام الثورة والمتمثلة في لقمة العيش وكيف تمحورتِ الأهدافُ حول شعارٍ واحد ( الشعب يريد إسقاط النظام ) والذي لمجردِ أن سقطَ تساقطتْ بعدهُ أوراقُ الربيعِ اليمني في نفقِ المطالباتِ المبكرةِ بــ حرياتٍ سوقية ( ثقافية وفكرية واجتماعية ) في الوقت الذي لم تحقق فيه الثورة للشعب أبسط الحرياتِ المتعلقة بحرية المأكل والمشربِ لنتفاجأ بعد ذلك بالهجومِ السوقي من أدعياء الحرية الجسدية والسطحية في الفيس بوك والصحف على الشيخ عبد المجيد الزنداني لمجرد أن الأخير أبدى رأيه المشروع كـ - أي يمني - في قيام دولة دينية ومن كل أطراف ( حلف السفهاء ) بالإضافة إلى حلفاء جدد كانوا على دكة الاحتياط ينتظرون بفارغ الصبر انقضاء عدة الثورة اليمنية للتزاوج مع بقيةِ الحلفاء ..

كنتُ أخفي ارتباكي وأنا أتحدثُ مع صديقي عن هذه المخلفاتِ المتناقضة واللاموضوعية التي أنتجتها ثورة التغيير فهؤلاء الذين يطالبون بالحريةِ السياسية والثقافية والاجتماعية والجسدية المطلقةبدءوا بمزاولة مهنة الإقصاء المبكر للآراء الأخرى لتتبدى لنا معالمُ الفشل للثورةِ من خلال عقلياتٍ ما زالتْ تتأرجحُ بينَ ظِلال المدنية وضَلالِ الهمجية فالنمو الثقافي والفكري لدى هؤلاءِ اليساريين مجرد غلافٍ شكلي يُخفي بداخلهِ الكثيرِ من المخلفاتِ الاستبدادية التي مورست في ظلال الأنظمة الاستبداديةِ التي تشربوا مذاهبها الوضعية مثل الاتحاد السوفييتي ونظام جمال عبد الناصر العسكري ونظام الخميني القمعي ..

كان الحديثُ شيقاً وشقياً لدرجةِ أنني كنت أضحكُ ببلاهةٍ لـ مداراةِ الضحكاتِ المتبجحة لصديقي البلطجي في محاولةٍ مني لإظهار رباطة الجأشِ أمام هذهِ اللكماتِ القاضية التي أتلقاها من هذا الصديق الذي كنت أفطر وأتغدى وأتعشى بشرشحته ومسخرتهِ بسبب المد الثوري الذي كان يكتسحُ الأخضر واليابس والذي كنت أستمدُّ منهُ عنجهيتي وساديتي في قهرِ الخصوم بل والتمثيل بجثثهم ..

لم يستنفد صديقي البلطجي أوراقهُ بعْد ، فقد كانت في جعبتهِ ورقة أخيرة بالغة في الحساسية تتمثلُ في أحزاب اللقاء المشترك اليسارية والتي وضعت رؤوسها في حكومة الوفاق ودفنت ذيولها في مراحيضِ الشقاقِ لتمارس دورين مزدوجين يتمثلان بالحكم والمعارضة في آنٍ واحد في تجربةٍ سياسيةٍ وسينمائية فريدة لم نسمع عنها إلا في اليمن ..

لم أملك بعد ذلك حيلةً غير رفع الراية البيضاء أمام صديقي البلطجي الذي أثبتَ لي أن الحرب كر وفر وأن انتصار ثورتنا لم يكن سوى بدايةً لهزيمةٍ ساحقةٍ سنتلقاها من الطابور الخامس والذي تأخر

الصفوف حينما كانت ثورة شعبية وتقدم الصفوف حينما أصبحت ثورة مضادة ..

لملم صديقي أوراقهُ - التي ظل يجمعها منذ سقوط النظام - ونظر إليَّ بشماتةِ المنتصر ثم وجّهَ لكمته القاضية إلى خاصرتي الثوريةِ حينما قال :

( من سخريةِ القدرِ يا صديقي أن كل هذه الطعنات التي تلقتها ثورتكم جاءت من مدينتكَ التي يتبجحُ أهلها بأنهم منبعُ الثورات .... تعز )

ففي تعز اليوم شيعة يساريون ويساريون شيعة ..

في تعز اليوم تُسبُّ الذات الالهية من متطرفي اليسار القدماءِ ويُسب الصحابة من متطرفي اليمين الجدد ..

في تعز اليوم تمارس الذيول ثورة مضادة ومعاضرة بينما الرؤوس في صنعاء تُزاول مهنة الحكم وتُشارك في اتخاذ القرار ..

وفي تعز اليوم ليبراليون ( وسطيون ) حينما يتطاول ( تعزي ) على الذات الالهية لأن هذه حقوق وحريات فردية لا يجب المساس بها ولكنهما يتطرفون تماماً حينما يبدي شيخ دينٍ رأيهُ المشروع في قيام

دولة دينية ..

غادرَ صديقي البلطجي بعد أن تركني مضرجاً بـ العارِ أمام بقية الأصدقاء ..

ولكن لم تمر بضعة دقائق على مغادرته حتى تسلل وجههُ ( الدميم ) مرةً أخرى من فتحة البابِ ليدق المسمار الأخير في نعشي ..

قال لي صديقي ( البلطجي ) بلهجةٍ تفوحُ منها رائحة التهكم والتشفي :

الآن أدركت لماذا تفشل كل الثورات في اليمن ..

( لأن الأم التي تلدُ الثورات هي ذاتها التي تئدها ) ...

عدتُ إلى المنزلِ مطأطئ الرأس مُنهك البأس أحمل عارَ انتمائي لمدينةٍ فاخرنا بها العربَ والعجمَ حينما أنجبتِ الثورة وانحنتْ رؤوسنا ( كمان للعرب والعجم ) بعد أن اتضح أن هذا المولود لم يكن شرعياً ..

ولكن سرعان ما عاد لي الأمل بعد أن تذكرت معلومة قالها لي والدي حينما كنت صغيراً فسخرت منهُ واعتبرتها مزحة ثقيلة ولكني ما إن عدت إلى المنزل حتى بادرتُ والدي قائلاً ( يا با صدق اصولنا من ارحب ولا تمزح ) ؟؟

( game over )