الثورة ألأكثر وطنا
بقلم/ وليد البكس
نشر منذ: 12 سنة و 8 أشهر و 22 يوماً
الثلاثاء 28 فبراير-شباط 2012 11:22 ص

alboox@gmail.com 

حينما بدأ هذا النظام بالتهاوي،كان هذا على أيدي هذا الجيل الحر الغاضب و تحديدا حدث مع دوي أول صرخة في ساحات الحرية والتغيير،وتأسيس او خيمة ثورية تتبنى سلوك ثوري سلمي.وهذا بالطبع مصطلح لم يشهده هذا البلد من قبل.ليشعر اليمنيين ان من حقهم ان يغيروا و يعيشوا حياتهم بعيدا عن كل تلك المشاكل و القضايا؛حيث جلبها لهم نظام مسطح متفرد.و شعروا أنهم اقتربوا من تحقيق حلمهم،ولو لتوفير ابسط احتياجاتهم الأساسية.وتغيير الشكل السائد في الحياة،إبتداءا من رأس الهرم السياسي في السلطة،وحتى آخر شخص فيها.وهو ما يجري متابعته،وبأي طريقة تأتي بعيدا عن العنف والمصادمات. 

و عندما تم الاتفاق والتوقيع على المبادرة الناقصة أسميناها هكذا على ما اعتقد؛لأنها لم تحتوي على إجراءات محاكمة النظام وعناصره،ولم تتطرق لذلك إلا أنني غالبت دموعي مرات عدة،وأخبرت أكثر من صديق بأنها الفكاك من حالة تضيق وتشتد.وليس إعجابا بمحتواها،ولا تأييدا لهذا الطرف او ذاك،ولا حبا بهذا الحزب او آخر،ولكن لأننا عشنا ليل المخاضات الطويلة كشباب مواطنين يمنيين أولا وثانيا كصحافيين مهنيين نبحث عن نقطة حرة ومساحة لرأي منصف، كانت مخاضات بطعم ومذاق أكثر مرارة،تمتد إلي عشرات السنين،تخلينا خلالها عن ابسط الأشياء المرغوبة او التي رسمناها صغارا او كبار،وآلاف الآلاف من الأمنيات التي حلمنا في تحقيق ولو النزر اليسير منها.و كلما توقعنا الحلول الممكنة،للخروج من مصنع الإحباط الكبير ،اسمه (وطن)،لم تكن أكثر من مجرد تخيلات،أوهام،نصحو على اللا حلول التي أوشكت مرات ومرات أن توصلنا الى ضفاف الهلوسة،لنعود محملين بثقالات فارغة منهكة؛تخلصنا إلي تبادل الأفكار،التي بدورها تلهمنا اليأس.وهو نوع من العرض المنطقي المضاد و المتاح للخلاص والحرية و الأمل.

ناجينا حلول السماء فشحت غيومها ورحلت،و تخيلنا مخارج من الأرض فآثرت بأقل من القليل من أنصاف الحلول،لننكفئ خلف كل حلم وخيال با(الحمد لله على كل حال)و ما نلبث ان نعاود في الوطن له ومن اجله.

جربنا الوطن فكان الوطن هو الجحيم،في ظل العبث السائد.وجربنا الغربة فكانت الغربة ألجحيم.من قبل ومن بعد؛صرخنا بحق الديمقراطية والحزبية كمخرج جديد ووافد،ناشدنا بالكتابة وبالكلمات فكان اللون الواحد يميز كل الصفحات،زوروا الحبر،واستنسخوا الصحيفة والحزب،وحتى نموذج الديمقراطية؛فصلوه على مقاسهم النظامي الهمجي البشع.لا شئ في الأفق سوى أللون الزيتي والعسس يحاصرك،و يضربوا سياجهم في تفاصيل كل حلم جميل كان او قبيح.قبل ان تستيقظ او تنوي ان تنام.

وقبل عام وعام من الآن استعنا بصمتنا فخدعنا،لم يقف في صفنا كما نشاء.صرخ في أعماقنا واستلذ النوم.كان صمتا أيضا جبانا بما يكفي،ليس له قراره الأخير،وحين جربنا ان نستعين بالإخوة والأصدقاء،لم يكونوا أكثر من إخوة يوسف، و أصبحنا مؤخرا فريسة ألف ذئب و ذئب.وذلك مالم نتواطأ معه،او بسببه مع صمتنا وعجزنا النشط.

كنا ضحايا لواقعنا بالغ التعقيد،او كما وجدنا عليه آباءنا راضخين،مضينا في طريقهم الحر داخل المنازل فقط. أجبرتنا كل الطرقات والمسارات وفي كل الاتجاهات؛على (سيرتهم الشعبية البسيطة التي نعتز بها)؛نلبس ثيابنا الرثة،نتداو بأعشاب الجدات وتجبير الكسور بمواساتهن وأساليبهن العتيقة،أكلنا القمح المستورد والمحلي من شدة الفاقة،و قرانا في الصفوف الأولى عن التربية الوطنية،التي لا تحوي قصة واحدة عن (رئيس يدعى إبراهيم ألحمدي)كانت كتب مستنسخة من مناهج لا تعنينا بهكذا واقع،وحينما نهرب من تلك المناهج،نصطدم في واجهة قناة تلفزيونية رسمية رئاسية عسكرية نظامية واحدة تؤدي الغرض عنوانها (اليمن) نتحلق متسمرين أمامها لترتسم صورة تلك الدولة المتخيلة في أذهاننا، ونكتفي في نهاية المطاف كرواد من صنف واحد مقهور..مسحوق بمشاهدة فيلما أجنبيا نكون قد هربنا به من سحنة الزعيم التي تترصدنا في الشارع والمدرسة و البيت،لا لنستمتع بمشاهد الفيلم،وغالبا لا نعي ما يدور.بل لننزوي معه من نهاراتنا العصيبة،و عبر مشاهدة بلدان آخر وفضاءاتها المشرعة،لننام بعدها وعلى أجفاننا مئات الأسئلة الجارحة لكل نواميس الكون،لماذا الشقاء مقدر علينا اليمنيين؟.نجرب ان نصغي إلي الراديو او- كما يحلو لبعض المناطق اليمنية تسميته بالمذكر ولا ادري لماذا؟ با (ألرادي).

 نستمع الى إذاعات موجهه بالبرامج المتخلفة،مشوشة تكافح فينا موروث " ليلين وماركس،وعبد الناصر وفتاح، وسوكارنو وغيرهم من مشرعي وأبطال الثورات" لا ندري غالبا لماذا تختفي هذه الأسماء بأوصاف وألقاب أصحابها، مع التكريس لمنجزات شخص واحد وزعيم واحد وبطل واحد وقائد واحد.؟التي شبعناها بمجرد الحديث عنها.

يظل يسبح الببغاوات بها من العدم،وتسري في تفاصيل ومفاصل حياتنا،كشخص متفرد بكل مقاليد الماضي،و الحاضر،وحتى كان يكون هو المستقبل.وذلك ما لم يجعلنا نفكر ولو بنية التغيير،و بالمناسبة تكريس الصورة السلبية(عبر كل المطابخ الاعلامية السلطوية الرسمية) لم تكن تعنينا كشعب ولا وطن.كان مصدرها الوحيد مكشوف،غير ان خوفنا يحاصرنا حتى ابعد فكرة داخلنا؛بأن نكون أحرارا.وذلك مصدر أكثر من خوف حقيقي.

كنا نشعر بأن هذا القول الذي ربما تردد في أعماقنا وتوسع فينا"عندما تبقى القطعان معا فإنها تمتلك فرصة في حق البقاء" وهو ما تجاوزنا وفاض حتى انفجر بكل هذا الشعب والشباب الحر،جراء تعنت نظام التسلط.

بفعله تقزمت خياراتنا،شعرنا على الدوام أننا ارتهنا للخوف من القادم،و تناقلنا بالخفاء أخبارا عن منقذ لم يأت،حتى تخلينا عن أحلامنا وكدنا نبيع كبريائنا في(المقائل)أصبحنا زبائن صالونات التهريج القميئة،مع أننا كنا نشعر بتوسع مزاد الجوع والحاجة في أعماقنا حتى للحظة من تلك التي ينعم بها أبناء الذوات من أولاد المشايخ و مسئولين في الدولة،تربوا وترعرعوا من عرقنا وضريبتنا،حيث نكابدها ونحن نسددها في فواتير الماء والكهرباء.ونقسط حياتنا من اجل راحتهم،ليتطاولوا هم في كل شئ ونتقهقر نحن،وتحول طموحنا وراء كل حلم ناضج،من تغيير السائد،الى مجرد خرافات وسخرية من وطن،و أي وطن ضرير،يتحسس ألمه ولا يتوجع او حتى يئن خفية.

كل ذلك مبعث للنكوص،كم مرة جعلنا نتحول بأملنا من اليمن الكبير الى أضيق من كوب شاي وقرص عيش، تحولنا من أبناء اليمن السعيد بفعل هذا النظام الواحد،الى فئران لا بشر،تطاردها عناصر عنتريات الأمن القومي،والسياسي و مجندين الأمن المركزي وجوارح الحرس الجمهوري وبقية كتائب جيوش الردة.وهو الفاصل المؤلم في أجزاء حياة اليمني الشقي.

أينما ذهب او جاء،يظل اليمني مشحون،محملا بحزنه و خيباته وثيابه السوداء وأحلامه المؤجلة في الغالب، وهو بصراحة؛معبأ بتأريخ من الغضب والنار والكبريت واللهب وقوائم الخيبات،وهواجس العسكر و السجن، والذكريات المرة عن زمن ممارسات نظام الفجر،وقوائم المعتقلين و المختفيين قسريا،والمشحون بذاكرة أسر وأقارب هؤلاء المغيبين خلف غرف التحقيق او المسكون بالبحث في وجوه السنين الساقطة من حياتهم.(احداث الناصريين حركة 13 يونيو،و أحداث 13 يناير في الجنوب وصيف94 ،حروب الحوثيين الستة،غير هذه المسلسلات الدموية القمعية كفيلة بالتذكير بها) الآن.

هذا اليمني الذي لم يكن لديه سوى أمنية واحدة هي ان يعيش مثل البشر؛ الذين خلقهم الله على صورته فأرادهم هذا النظام على شاكلته و هيئته هو،أمنية اليمني تتلخص في ان يدرس ويعمل ويبني بيتا ويتزوج ويأتي في آخر النهار لعائلته حاملا قليل من الفواكه،وبعض بسكويت للأطفال ثم يموت بهدوء.و ليس أكثر. لذلك ظللننا نهيم على وجوهنا مجبرين من اجل ان نحقق ولو ابسط المطالب الحياتية ودون ان نقفل نوافذ الأمل بالتغيير. 

لم ننكب على وجوهنا،تتبعانا العالم عبر الصحف،وأصغينا سنين الى إذاعاتهم،وحفظنا عن غيب أسماء رؤوسا الدول ومواعيد صعودهم والسقوط،ومذيعي الأخبار،لعل احدهم يحمل لنا خبرا سارا يطمئننا عن دورنا في التغيير،ولا أمل في الأفق.استمرينا في حفظ خرائط البلدان القريبة والبعيدة،شددنا التفتيش عند منافذ الحدود على أسماء المهربين و تجار الاتجار بالبشر،ومزوري الجوازات،و لا جديد،و ما زلنا هنا في هذا المكان القصي من العالم،تسكننا الأمراض القديمة(مثلا الملا ريا وأخواتها)،ويلوكنا التخلف والعوز ويطحننا الفقر بشدقيه بلا هوادة.

ولم يستمر الوضع كما هو عليه،نحتاج لمجلدات من الكلمات لسرد تأريخ شعب مسحوق،وعلى مدى عقود، حينما كان العالم البعيد والمحيط في الجوار يتغير،ونحن ما تزال الحاجة تجرنا إلي خيباتنا مكرهين.كان لابد للربيع العربي ان يصدر إلينا نسخته الأولى،تلقيناها على طريقتنا التي تناسب حالنا وحالتنا الرثة،قامت ثورة .تقبلنا كل تبعاتها وما شابها من محطات،كما تناولانها على مدى مايزيد من عام في تفاصيلها المحزنة والمفرحة،حتى وافق علي عبدالله صالح على التنحي،ووقع المبادرة الخليجية.التي معها شعرنا بأننا قدمنا تنازل،كان لا يمكن ان نقبل به بهذه السهولة، لكنها المرحلة الأولى من تحقيق الهدف الأول للثورة الشعبية الخالصة.بحجم طموح و عزم شباب الحرية والتغيير المتقد. 

من اجل كل ذلك أحسست وبصراحة أنني كدت ادمع فرحا عندما تم التوقيع على المبادرة،شعرت وقتها أننا ركنا الى مرفأ في شاطئ جديد،وأسقطنا حائطا لم يعد بعد هذا اليوم هذا النظام المتفرد يتكئ عليه كحاكم متسلط متكبر. ومتغطرس.

حققنا أول أهداف الثورة الشبابية الشعبية السلمية وبأي طريقة يراد لها ان تنتصر.كنا منهكين بما يكفي.كشعب ودولة باقتصادنا الركيك وتأريخنا الغارق بغير الشريف وجغرافيتنا المجروحة.وحتى بكرامتنا المنكسرة.

وحينما فكرنا ان نثور نغير هذا القالب القاتل،لحقنا القتل وكاد يتبعنا التشرذم والشتات،بصراحة كشعب فقير منهك لا ظهر له يستند إليه،سوى مبادرة والية مزمنة تحفظ ما تبقى من كرامتنا بعد ان حاول النظام (من مصدر ضعف لا قوة نسف و إحراق ماتبقى من وطن).و فتح النار في كل اتجاه.

لحظة ان امسك الرئيس صالح بالقلم في الديوان الملكي السعودي وقرر التوقيع،أدركنا بأنه استدراج للثورة وللساحات المليونية،لكننا أيضا تأكدنا بأنه التغييب الحتمي لرئيس متعنت.سيخلفه من بعده عبد ربه منصور هادي كرئيس في وطن يريد أناسه أن يتركهم هذا الحاقد لنعيش،نعمل،ونأكل ونكتب ونتكاثر بطريقتنا،بعيدا عن طريقتهم النظامية الفجة.

كنا في تلك اللحظة أحوج إلي ان يزيح هذا الرجل فوهات بنادقه المصوبة الى جباه الشباب والنساء منذ تأسيس دولتنا (الساحة) الأكثر وطن،وهي في الأساس موجهة منذ تأسيس نظامه البوليسي.وحتى الآن.

لم نكن نطمح سوى إلي ان نريده الآن ان يخلع عنا رداء الذل الذي ألبسنا إياه منذ ولادتنا كجيل عاش تحت إبط نظامه المتجهم القاتم،نريده يتركنا ان نموت بهدوء دون ان تكون "عربات الرش والقناصة" زارتنا داخل الساحات وخارجها.

وان نغادر الحياة بأجساد صحيحة دون ان تنهشها مختلف الأمراض التي عجز النظام بكل مؤسساته الصحية واللاصحية ان يكافحها ولا يقضي عليه.

 استغرق من حياتنا أوقات مؤلمة وطويلة 33 سنه من التخرص والخرس،وسنة(2011) من الشجار والتبجح والعناد والقتل،وتغييب شبه رسمي للدولة،حد الانتقام بالقمامة.و الانفجارات الصوتية و الحقيقية والشد والجذب والاحتقان الذي لاينتهي(مات،لم يمت،سقط لم يسقط،سافر،لم يسافر،رجع لا مش راجع.وقع لا لن يوقع) سنة حارقة في ذاكرة الوطن و نحن نعيد إنتاج مشاهد داحس والغبراء وبصراحة لم تكن في الثورة من أعاد ذلك،لقد شهدناها في مسارح هذا النظام،في البرلمان ألمؤتمري العجيب،في الاحتفالات الوطنية الغريبة، في المهرجانات الانتخابية الشكلية،لقد أعاد جميع نقائض جرير والفرزدق في كل خطاب متلفز او لقاء صحافي.ظل يهضرب أكثر من ثلاثة عقود.لتأتي الثورة المنقذ والمخلص من كل هذا الهراء.

المرحلة الانتقالية مرحلة جديدة،فترة نحتاج فيها الى بعض التفاؤل بمستقبل البلد،وبعض الشعور بالرضاء التي تصاحبه المسؤولية التاريخية تجاه الوطن والمجتمع،وبعض التسامي على الجراحات الحية والطموحات السياسية المبالغ فيها فهناك الكثير مما لم يتم انجازه حتى اللحظة.يجنب ان يكون نصب عيون الوطنيين وهذا الشعب الحي العظيم.