صنعاء القديمة في المنجز التشكيلي اليمني: شغف فني أم (مأزق واقعي)؟

الثلاثاء 22 أغسطس-آب 2017 الساعة 09 مساءً / مأرب برس - احمد الأغبري/ القدس العربي
عدد القراءات 23363

يكاد سحر جمال مدينة صنعاء القديمة، لا يتجاوز روح التاريخ، ونبض الفن، روح التأريخ الذي مازال يشارك سكانها حياتهم، بل هو أول منْ يستقبلك ويمد يديه إليك مصافحاً بمجرد ولوجك إليها، فيقدِمك لأهلها ويقف بك على شرفات ثقافتها، لتكتشفْ أن مصدر سحرها هو الفن، الذي مازال ينبض في معمارها وثقافة سكانها.

ولهذا ماتزال، هذه المدينة، مصدر إلهامٍ لكثير من المبدعين، خاصة التشكيليين اليمنيين، الذين مازالوا شغوفين باكتشافها، منذ جيل الرواد وحتى جيل الشباب، لدرجة تكاد الأعمال التشكيلية المرتبطة بهذه المدينة توثق لمراحل تطور هذا الفن في اليمن، على اختلاف أجياله ومدارسه في علاقته ببيئته المحلية، كما تقدم لنا أسماء تشكيلية في كل مرحلة، في سياق (كشف تجريبي متبادل) مازال يتدفق من لوحة هذه المدينة، التي تعد من أقدم مدن العالم (العامرة بالحياة)، ومدرجة ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي لدى منظمة «اليونيسكو».

 

تجارب فردية

 

على صعيد علاقة التشكيل اليمني بالتراث وثقافة المكان، تمثل صنعاء القديمة واحدة من أهم عناوين هذه العلاقة، وهي العلاقة التي حظيت فيها هيئات هذه المدينة المعمارية والإنسانية والثقافية باحتفاء تشكيلي محلي منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي تقريباً، أي منذ ظهور التشكيل اليمني الحديث، وهي البدايات التي ارتبطت في جزءٍ مهم منها بالمعالجة الفنية التشكيلية لموضوع التراث، وهي المعالجة التي يمكن القول إنها عبرت عن تجاوز أبرز فناني جيل الرواد والجيل التالي، مأزق الاستلاب، وما يعرف بغوايات الحداثة، حيث تحققوا مع (الاستلهام) القائم على الوعي الحضاري بالهوية والفن العربي والإسلامي عموماً، وهو الوعي الذي يستنطق بواسطته الفنان خبايا الجمال في علاقة الإنسان بالمكان.

تجلى ذلك التميز لدى جميع أجيال المحترف اليمني وبمستويات متفاوتة بدءاً من جيل الرواد، وقد تميز كثيراً، ضمن هذا الجيل، عبدالجبار نعمان، الذي يعد من أوائل الفنانين الذين اشتغلوا على هذه المدينة، ونفذ جداريات لمناظر منها، ومازالت تعلق بعض لوحاته وجدارياته هذه في عددٍ من كبريات مؤسسات الدولة والمنظمات الدولية في صنعاء.

ويحسب لهذا الفنان الواقعي أنه أخرج هذه الأعمال في مرحلة لم يكن المجتمع اليمني قد اعترف بالفن التشكيلي. ومثلت مناظر معمار هذه المدينة ثيمة سياسية في اللوحات المعبرة عن وحدة البلاد، فكانت تضم منظراً معمارياً من المدينة القديمة في صنعاء رمزاً يختزل شمال اليمن يتداخل معه منظر من صهاريج عدن أو مدينة شبام حضرموت أو قصر سيئون رمزاً يختزل جنوب اليمن.

وتميزت أعمال نعمان برؤيته البصرية المختلفة التي تطورت لاحقاً إلى (واقعية تعبيرية حديثة) من خلال لوحة تتداخل سطوح مناظرها المعمارية والإنسانية بتفاصيلها الثقافية، وفق سيمفونية لونية يجيد عزف بهجتها، بما يستنطق الرؤية التي يستشعرها في باطن المنظور، بالإضافة إلى أعمال نعمان جاءت أعمال الفنان فؤاد الفتيح، الذي ينتمي إلى الجيل المؤسس، ومثلت تجربة الفتيح واحدة من أهم التجارب التشكيلية التجريدية، التي ربطتها علاقة استثنائية بالمدينة، خاصة ثقافتها الحياتية وخلفيتها التاريخية، وتميزت تجربته برسم مناظر من حياة الناس وهيئاتهم في نص بصري ممهور بتفاصيل رمزية من الثقافة المحلية والتاريخية اليمنية القديمة، بالإضافة إلى مواد من البيئة نفسها، ومن خلال هذا الفنان وتعبيراً عن شغفه بهذا المكان، فقد شهدت المدينة القديمة بدايات متفائلة لعمل تشكيلي شبه مؤسسي، متمثلاً في افتتاح مركز وطني للفنون في سمسرة (خان) المنصور وسط المدينة، إلا أنه، ونتيجة لمعوقات كثيرة، تعثر نشاطه.

 

جماعة فنية

 

تواصل الاشتغال التشكيلي على المدينة القديمة من خلال تجارب فردية حتى بداية الألفية الثالثة، وهي الألفية التي كانت قد شهدت تبلور تجارب جيل ما بعد الرواد، الذين كان بعضهم قد عاد بعد أن أكملوا دراساتهم الاكاديمية في الخارج، خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومن هؤلاء من سحرتهم هذه المدينة وشغفوا بها أيضاً، وهو الشغف الذي عبر عن نفسه في إعلان أربعة منهم: آمنة النصيري، طلال النجار، مظهر نزار، وريما قاسم، تأسيس (جماعة الفن المعاصر)، وافتتاح مرسمهم في أحد بيوت هذه المدينة العتيقة، وبالتزامن مع افتتاح (اتليه صنعاء) الخاص بهذه الجماعة افتتح أحد أعضائها، وهو مظهر نزار، معرضاً دائماً لأعماله ولبيع بطاقات سياحية للوحات مناظر المدينة، بجانب مدخل المدينة الرئيس والمعروف بباب اليمن.

وبعد نحو عشر سنوات من عملها، انفضت الجماعة وأغلق الأتليه والمعرض الكائن عند بوابتها، إلا أن تجربة (جماعة الفن المعاصر) مثلت تطوراً في علاقة التشكيل اليمني بهذه المدينة، إذ وفرت قرباً كبيراً في علاقة الفنان بالمكان، فأصبح الفنان يومياً داخل المدينة، ويرسم في أجوائها، كما استطاع بعض أعضائها إنجاز عدد كبير من الأعمال عنها، ومنهم الفنان طلال النجار الذي انطلق بمشروع خاص به لإعادة اكتشاف هوية هذه المدينة تشكيلياً، من خلال أعماله سواءً الواقعية التي بالقلم الرصاص، والتي اكتشف من خلالها جمال بؤس وجوه وهيئات المعمرين من سكانها وزوارها، أو من خلال لوحاته التجريدية اللونية التي استنطق بواسطتها مفردات الهوية الخاصة بهذه المدينة، كجزء من الهوية العربية الإسلامية لبلاده.

وفي السياق ذاته لا يمكن تجاوز الأعمال الواقعية للفنان مطهر نزار، التي استطاع من خلالها إعادة تقديم المدينة بعين مختلفة، خاصة المعمار بتفاصيله الزخرفية الخاصة والمكانية العامة، التي ينجزها بمهارة ذكية تساعده علاقته المتميزة بتقنية الألوان المائية.

 

بيت الفن

 

على الرغم من تورط بعض فناني الجيل الأول والثاني وما تلاهما، في الأعمال السياحية في علاقتهم بهذه المدينة، إلا أن بعضهم استدرك وتراجع ومضى في طريقه الواعي للتوفيق بين بصمة تجربته ورؤيته وحاجته لإنجاز أعمال تمثل إضافة نوعية للتجربة والمحترف، وفي الوقت ذاته تلقى رواجاً سياحياً، في ظل ما كانت تلقاه هذه المناظر من طلب متزايد من قبل السياح والأجانب قبل الحرب، وهذا الطلب السياحي لهذه الأعمال مثّل واحداً من أسباب تشجيع كثير من الفنانين الشباب لاحقاً للارتباط واقعياً بهذه المدينة في أعمالهم، بل إن بعضهم لم يستطع تجاوز مأزق النقل الفوتوغرافي في علاقته الواقعية بها.

علاقة جيلي الوسط والشباب من التشكيليين اليمنيين بهذه المدينة على فرديتها، باستثناء مشروع (بيت فن صنعاء)، يمكن القول إنها جاءت أكبر وأوسع من تجارب الأجيال السابقة، لأسباب متعلقة بالعدد الكبير لفناني هذين الجيلين غير المتخرجين من أكاديميات فنية في معظمهم، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يرتبط معظمهم بالواقعية ويستقر فيها كمدرسة، حيث مثلت هذه المدينة منهلاً لأعمال كثيرة في هذا الاتجاه، إلا أن معظم أعمالهم تلك، لم تتجاوز، للأسف، سطوح المنظر، فيما استطاع بعضهم، بعد سنوات من التجريب والاحتكاك والقراءة والاطلاع، من النفاذ، بمسافات متفاوتة، إلى روح المنظر والتعامل الرؤيوي البصري مع العناصر والمعاني، وقبل ذاك مع الخامات والأدوات.. ومن أحدث التجارب التي تمثل إضافة جديدة لعلاقة التشكيل بهذه المدينة تبرز تجربة الفنان محمد صوفان ولوحته الخاصة بمناظر المطر، التي تمثل خلاصة مرحلة تجريبية قطعها الفنان في علاقته الواقعية بهذه المدينة، اكتشف من خلالها بصمة خاصة فأمعن في قراءتها وتطويرها وصولاً إلى لوحة جديدة تؤكد استمرار تطور شغف التشكيل اليمني في علاقته بالمكان من خلال هذه المدينة الساحرة.

 
إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة ثقافة