موت الأب..
محمد العلائي
محمد العلائي

قبل أن تفيض روحه، كان بدر الدين الحوثي قد نال من الغياب ما يحتاجه رجل ثمانيني ليموت. وفي وسائل الإعلام كان قد مات أكثر من مرة عبر موجات من الشائعات التي كانت تصاحب جولات الحرب وتتخللها.

لكنه مات هذه المرة بالتأكيد. ولقد أم المصلين في جنازته نجله ووريث تركته الروحية، التركة البسيطة التي ساهمت الحرب في تحويلها إلى عملة سياسية ومليشاوية، والتي يجري الآن تعويمها عن كثب في سوق العملات المحلي والدولي.

كان بدر الدين الحوثي مرجعية دينية أصولية أكثر منه سياسيا أو محاربا. وكان هذا الرجل الذي ولد في عشرينات القرن المنصرم، يتحلى بروح قتالية ومزاج عنيد ربما كان يستمدهما من الإرث التاريخي لأسلافه، الإرث المليء بالتناحر السياسي والثورات، قبل أن يستمد تلك الروح وذلك المزاج من تعاليم الشيعة الزيدية التي تحرض على الخروج والانشقاق المستمر، أو من منهاج الخميني.

كان قديما عتيق الطراز يتحرك في وسط اجتماعي قديم وعتيق الطراز هو الآخر. وبالنسبة لغالبية النخبة الزيدية، كان بدر الدين بمنزلة المنشق الأكبر والمتمرد والطموح، وبفضله أصبح الانشقاق والتمرد والطموح تقليد عائلي راسخ. كان المجدد في نظر البعض والتخريبي في نظر آخرين.

لست واثقا من أن الحوثيين قد شعروا بشيء من الفقدان أو اليتم بعد رحيل الأب. فاسم بدر الدين لا يرتبط مباشرة ببدايات الحركة الحوثية. ذلك أن نجله حسين هو الذي خطف الأضواء وتولى قيادة أول خروج مسلح انتهى بمقتله عام 2004. لكن للحوثي الأب محاولات في هذا المضمار وإن لم يمتلك الحس الحركي والتنظيمي لنجله. قصفت القوات الحكومية منزله في مران أواسط التسعينيات فانتقل إلى السعودية ومنها إلى إيران.

ولمن لا يعرف فبدر الدين كان أحد أهم مؤسسي حزب الحق مطلع التسعينيات، لكنه خلص مبكرا إلى عدم جدوى العمل السياسي وفقا للأدوات الحديثة.

كان هو الرجل الثاني في الحزب بعد المرجعية الذي توفي قبل بضع سنوات مجد الدين المؤيدي. خلافات الأخير مع بدر الدين شرخت الحركة الزيدية الإحيائية إلى معسكرين: حمائم وصقور -إن جاز التعبير- وكان بدر الدين يقف على رأس معسكر الصقور.

معلوم أن ثورة 1962 وضعت المذهب الزيدي أمام خطر وجودي ماحق. ويشرح الزميل محمد عايش كيف أن المذهب الزيدي في صميمه فكرة سياسية أكثر من أي شيء آخر، ركيزته الأساسية هي: الإمامة، إضافة إلى مبدأي الخروج على الحاكم الظالم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا يعني أن فرص حياة المذهب لفترة طويلة خارج السلطة السياسية كانت معدومة، خلافا لبقية المذاهب الإسلامية. لهذا كانت ثورة 62 حدثا فاصلا: لقد استطاعت تقويض الحامل السياسي للمذهب الزيدي، وفتحت منطقة النفوذ التقليدي للمذهب على مصراعيها أمام جملة التأثيرات والأفكار الدينية منها والعلمانية، الأمر الذي أعاد صياغة المنطقة نسبيا على نحو مختلف. ولسوف تغدو هذه الرقعة الجغرافية، رقعة صلح دعان، مصبا للمد الديني الوهابي الذي أخذ يعبر الحدود من خلال المغتربين والطلاب، مثلما صارت فيما بعد مصبا للمد الشيعي الإيراني وأفكار ثورة الخميني، ولاحقا حزب الله.

توليفة لا متناهية من التأثيرات. ابتداء بعبد الناصر وحسن البناء، وانتهاء بحسن نصر الله وخالد مشعل وبن لادن. والحصيلة شخصية مركبة مزدوجة لا تعرف حقيقة مشاعرها، واختياراتها غير مدروسة، لا تنتمي إلى الحاضر ولا إلى الماضي.

المعطيات المتوفرة بشأن سيرة حياة بدر الدين الحوثي شحيحة للغاية. ومن خلال البحث على شبكة الانترنت تستطيع العثور على شجرة النسب للراحل، الشجرة التي تنتهي بـ علي بن أبي طالب. ثم إن الحوادث التي رافقت وفاة بدر الدين طغت على كل شيء تقريبا. فقبيل الإعلان عن وفاة بدر الدين، وفيما كان عبدالملك الحوثي يحض أنصاره على إحياء يوم الغدير باستخدام الألعاب النارية حفاظا على الذخائر، كان ثمة من يعد العدة للاحتفال بالسيارات الملغومة.

ففي صبيحة الأربعاء الماضي، حينما بدأت المواكب تحركها من المناطق التي يتمتع فيها الحوثي بنفوذ جيد، ومنها محافظة الجوف، كانت سيارة تشق طريقها وسط سيل من السيارات المتجهة إلى صعدة للاحتفال، وفي نقطة ما من الطريق انفجرت وأودت بحياة قرابة 18 شخصا.

بعد يوم من هجوم الجوف، أعلن مكتب عبدالملك الحوثي وفاة بدر الدين. كان ذلك يوم الخميس. اليوم التالي، وفيما كانت المجاميع تتوافد للمشاركة في تشييع الحوثي الأب، اعترضت سيارة ملغومة موكبا يضم قبائل من مأرب وقتلت شخصين.

الهجومان جريمة نكراء بلا شك من شأنها نقل الصراع إلى مستوى مرعب. من حسن الحظ أن الهجومين لاقيا استهجاناً وإدانة واسعتي النطاق. اللجنة الأمنية العليا أدانتهما وكذلك فعل التجمع اليمني للإصلاح وحزب الحق. وفي حين راح المكتب الإعلامي للحوثي يشير بأصابع الاتهام إلى ما أسماه بالنشاط الاستخباراتي للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فقد أدانت سفارة واشنطن في صنعاء الهجومين ووصفت اتهامات الحوثيين بالسخيفة.

كانت أغلب التحليلات تشير إلى إمكانية تورط تنظيم القاعدة في العمليتين. وأمس سارع التنظيم إلى إعلان مسؤوليته عن الهجومين وتوعد بالمزيد. غير أن الحوثيين يتجنبون الإشارة إلى تنظيم القاعدة لسببين: من جهة لأن لدى الحوثيين اعتقاداً راسخاً بأن القاعدة أداة أمريكية صرفة، وبالتالي فهو لا يستحق اعتباره الحامل الحصري لراية العداء "للشيطان الأكبر"، ومن جهة أخرى لا يريد الحوثيون تصديق أنهم عرضة لهجمات تنظيم غير مرئي يصعب النيل منه، لأن ما من دولة تمثله ولا قبيلة ولا مذهب ولا جغرافيا ولا حزب.

لهذا يفضلون أن يكون عدوهم كبيرا يستطيعون الفخر بعدائهم له. وهم منذ البداية نهضوا على عاتق هذا العداء. كتبت ذات مرة عن قابلية حسين الحوثي، أكثر من أي شخص آخر، للاعتقاد بأن الظهور في دور العدو اللامع لأمريكا واليهود، يجلب الحظ السياسي، كل الحظ. وكيف أنه كان ينظر إلى أن المجابهة المفتوحة التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية مع تنظيمات إسلامية تشكل أفضلية سياسية وأخلاقية لا تقاوم، وامتيازاً اجتماعياً لا ينبغي لتنظيم القاعدة احتكاره لنفسه.

لكن واشنطن تجاهلت الشعار والمواقف، لأنه مجرد شعار ولأنها مجرد مواقف. وكشفت "واشنطن بوست" أن الحكومة الأمريكية رفضت تقديم الدعم للسعودية في حربها الأخيرة مع الحوثيين وأن فرنسا هي التي وافقت على تزويد المملكة بتقنيات اتصال ذكية.

على أية حال، أريد تذكير عبدالملك الحوثي هنا بأن موت الأب (عليه رحمة الله)، والهجومين الأخيرين، يمكن أن يمثلا فرصة ممتازة لإعادة تقييم نفسه وما يريد. يجب أن يصبح خيار العنف من الماضي، ويبدأ عملية تحول حرجة إلى العمل السياسي المدني، بخطاب وبرنامج سياسي واقعي يلامس تطلعات الناس العاديين على مستوى اليمن وليس في نطاق الجغرافيا الزيدية المتخيلة أصلا.

فالمنطقة الزيدية لم تعد منطقة زيدية. حتى الزيدية نفسها بمعزل عن جغرافيتها التقليدية، لم تعد هي الزيدية التي حارب في ظلها أسلاف بدر الدين الحوثي. والقبيلة لم تعد قبيلة، والتراتب الاجتماعي لم يعد هو نفسه، والقيم والمعايير وأساليب التدين تغيرت هي الأخرى: المؤذن يقول "حي على خير العمل" والخطيب يقرأ من كتاب عايض القرني في المسجد نفسه.

معظمنا يستسلم لإغراء المنطق التاريخي في تفسير الصراع ومآلاته. غير أن 50 عاما منذ ثورة 62 ليست بالمدة البسيطة. صحيح لم تنجز جمهوريات ما بعد الثورة التحول الاجتماعي والثقافي المتوخى، لكن هذا لا يعني أن شيئا لم يتحول وأن شيئا لم يتبدل. يوجد تراكم يمكن البناء عليه، على صعيد التعليم والعلاقات والوعي الاجتماعي وأنماط العيش وعادات التفكير.

لقد طال التغير أشياء كثيرة، ليس جذريا بالطبع، لكنه دمغ حياة اليمنيين، في شمال الشمال والوسط والجنوب أيضا، بما لا نستطيع معه إعادة الأمور إلى خانات الصراعات والتخندقات التي شهدتها الأزمنة القديمة.

تأسست تقاليد بيروقراطية ونظم وحالة حزبية كانت جيدة في البداية، ونموذج تجريبي بسيط لدولة وطنية. قبل 62، كان الاقتصاد في شمال اليمن وفي جنوبه زراعياً، وكانت ملكية الأرض تتوزع بين الملكية الفردية والإقطاع والقنانة، بيد أن الاقتصاد مع اكتشاف النفط أصبح ريعي بالكامل، وتبعا لذلك تبلورت طبقات ونخب جديدة وعلاقات تجارية واستهلاكية جديدة.

العمل بوعي ما قبل 62 أو خارطة صلح دعان، ليس ذكيا بأي حال. ولئن أجدى ذلك نفعا في صعدة وأجزاء من عمران والجوف، فإنه في أمكنة أخرى لن يؤدي المفعول بنفس الكفاءة وبنفس مستوى المخاطر وردات الفعل. إن ذلك من شأنه فقط الزج بالمنطقة كلها في أتون من التذابح الطائفي والإبادات.

عسكريا -وأشدد على كلمة عسكريا- وفي حال انكسار الجيش فقط، يمكن أن يغزو الحوثي ويتوسع ويبسط نفوذه داخل خط التقسيم الجغرافي للمذهب الزيدي، لكن عليه أن يدرك أنه يتحرك في حقل مفخخ. وبغض النظر عمن ستكون له الغلبة في نهاية المطاف، إلا أن جهة ما ستتورط في جرائم إبادة وقتل على خلفية الطائفة والجماعة الدينية.

باختصار، لم تعد الرقعة الجغرافية التي يقال إن الحوثي ينوي إخضاعها، نقية مذهبيا. حتى المناطق التي حافظت على مظاهر معينة من التدين الزيدي في الطقوس والشعائر العبادية، لا تجد في الخطاب السياسي (إن كان هناك خطاب سياسي) الذي يقدمه الحوثي ما يلبي أحلامها الصغيرة أو ما يغويها للانخراط الطوعي في صفوفه. "الموت لأمريكا" ليس في سلم أولويات هؤلاء الناس المعذبين.

"فما يقرر نمو حزب أو حركة إنما هو قبول المجتمع بالأفكار، أو البرامج، والسياسات، أي الرضا لا القسر"، هكذا كتب فالح عبدالجبار قبل شهر، في معرض إشادته بانتقال الصدريين في العراق إلى مربع السياسة من خلال تحالفهم مع المالكي، "رغم أن ميول القسر المجتمعي ما تزال قوية، راسخة".

سأفترض، على سبيل التجريب، أن لعمليات التحول، الممنهجة أو التلقائية، التي طالت المنطقة الزيدية في أعقاب ثورة 62، دوراً بارزاً في تزويد حركة الحوثي بأسباب الوجود على هذه الشاكلة. وبالمناسبة لا يقول الحوثيون في صعدة هذا الكلام، إذ إن معظم الفرضيات والخلاصات تصدر من هنا من صنعاء ضمن مساعي فهم وتحليل الصراع، المساعي البريئة وغير البريئة.

ومع ذلك فإن أي إجراء عكسي من قبل الحوثيين يهدف لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 62، أو أثناء صلح دعان، أي البحث عن منطقة نفوذ منسجمة مذهبيا متناغمة نقية، سيجلب الكثير من السيارات الملغومة والنعوش وردات الفعل.

بكلمات أخرى: أي محاولة لاستعادة خطوط التقسيم الطائفي القديمة، حماقة لن يكون بمقدور الحوثي ولا غيره تسديد فاتورتها أو السيطرة على نتائجها.

*عن صحيفة اليمن


في الثلاثاء 30 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 07:15:03 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=8416