أسرار بحر مرمر
د. سيدي محمد ولد ابهادي
د. سيدي محمد ولد ابهادي

في أعال البحار دائما هناك مفاجأة، و في أعماق اليم لا حدود للمفارقات، تلهو وتجزع في آن معا، ترهبك التماسيح، وتحنو عليك الدلافين... وتغرق في المشاهد الدرامية، في عالم لاحدود له، وإنها لتجربة فريدة أن تركب البحر من أجل ذلك كله، غير أن ركوب البحر يختلف في الزمان والمكان، وفي الهدف والغاية.

وقد كنا في الايام الاخيرة على موعد مع اكتشاف جديد وبوح جديد، يؤكد صدق القاعدة أنه في البحر دائما هناك أسرار...

بحر "مرمرة" : همزة الوصل بين البحر الأسود وبحر إيجة، وهمزة وصل بين الجزء الآسيوي لتركيا، وجزئها الغربي، ذاك بالمنطق الجغرافي البحت، وهو بالمنطق الآخر، منطق "مرمرة" اليوم همزة وصل بين تركيا والعالم العربي بل وعلامة فارقة في تاريخ العلاقة بين الأمتين، تجسدت فيه أواصر القربى والرحم، وتماهت فيه النفوس وتصالحت الذوات، وهو بنفس المنطق كذلك همزة قطع بين البحر الأسود الدموي الاسرائيلي والبحر الأبيض التركي الصافي، بشكل أقل تعقيدا هو فقرقان بين كيان بغيض يستمرئ القتل والتنكيل، ويتباهى جنوده بسفك دماء الأحرار والأوفياء والمدنيين العزل، ويتباهى قادته بقتل النساء والأطفال، وحصارهم وتجويعهم، وبين شعب كريم وفي مؤمن مجاهد، يشقى من أجل إسعاد الآخرين ويموت في سبيل رفع الحصار عنهم، ويتماهى معه في ذلك قادته وكبراؤه...

لقد سطر المتضامنون على متن أ سط ول الحرية بطولات عز مثيلها في هذا الزمن العاثر ، وكان للدور التركي -بالفعل وردة الفعل- ريادة حازمة يجب الوقوف عندها والتملي قليلا في مآلاتها وأبعادها.

ففي الوقت الذي يتنكر فيه العرب لقضيتم المركزية ويولون ادبارهم للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، وفي الوقت تتعلل الحكومات العربية بالشرعية الدولية وفزاعة عملية السلام التي لم يجنوا منها غير الهوان والانكسار، في هذه اللحظة بالذات يتولى القيادة قوم آخرون ويستلم المقود ربان آخر، قادم من تركيا مثقل بأرث حضاري عتيد، ومضمخ بعبق التاريخ العثماني الشاهد على مكانة فلسطين وعظمتها في قلوب الأمة التركية، فبرغم الاغرآت اللا متناهية والهدايا السخية التي قدما الصهاينة، للعثمانيين في وقت هم أحوج ما يكونوا فيه للمساعدة بعد تداعي أركان امبراطوريتهم، ونفاد خزائنها، ورغم الضغوط الكبيرة التي مارسوها على السلطان عبد الحميد، آخر الأمراء العثمانيين إلا أنه لم يبع فلسطين، ولم تساوره الظنون ولو للحظة في المساومة عليها، إلى أن جاء حكام العرب الجدد،-على النقيض طبعا من العثمانيون الجدد- فباعوا فلسطين والقدس، وحاصرو غزة، ولم يرعوا في أهلها إلا ولا ذمة، فتركوهم يواجهون قدرهم تحت نيرالاحتلال الصهيوني البغيض، إلى أن جاءهم من سر مرمرة ما يدكرون...

من المفرح المبكي حقا أن أنه بعد أن تقاعس أولئك عن دورهم واختروا الحج من يوم لآخر للبيت "الأبيض" ومجلس "أمنه" ورضوا من الغنيمة بالإياب، واكتفوا باستصدار قرارات الإدانة والشجب التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبعد ما عشناه عقوادا طويلة من الهوان والانكسار، بعد كل ذلك كان لابد من منقذ ومن ربان جديد يقود سفينة الحرية، ويكتب التاريخ من جديد، فقيض الله للسفينة من يقودها، فكان الشبل من ذاك الأسد، رجب طيب أردوغان، من أشبال الدولة العثمانية، من حفدة السلطان عبد الحميد، فسار بالقوم بر الأمان وقاد إلى نهضة جديدة؛ وبعث الامبراطورية العثمانية من مرقدها، حتى لقب وقومَه بالعثمانيون الجدد؛ ورغم عدم تحمس السيد "الطيب" أردوغان لهذا الوصف – سمعت ذلك منه أثناء مقابلة خاصة له مع المفكر الاسلامي فهمي هويدا- إلا أنه حقا يمثل ذلك الحس الجمعي وتلك الروح الأسلامية الواحدة، روح الكرامة والشموخ، روح الاعتزاز بالدين والملة، والاستظهار بها، ولعل خطابه الماضي في جدة كان شاهدا على ذلك الانتماء، وذلك المنهج.

ليس غريبا إذا أن يحتفظ بحر مرمرة وسفينتها بكل هذه الأسرار إلى أن يجئ اليوم الذي يبوح فيه بكل أسراره فيحمل من عروسه المتمنعة "اسطنبول" فيالق النصر وبوادر الحرية يمخرون عبابه مولين وجوههم شطر المسجد الحرام أول قبلة في الاسلام، في لحظة سيذكرها التاريخ طويلا، إذ لم تكن العودة للقبلة تلك عودة للقبلة الأولى وحسب؛ بل هي عودة أبعد من ذلك إلى الأصل والمنبت، عودة لأواصر كادت يد الزمان الغادرة أن تقطعها، وعودة لتاريخ مشترك وحاضر مترابط. وجاءت الدماء التي أراقها الإسرائيليون على شاطئ غزة لتختلط بدماء الغزاويين وتسقي نخيل غزة هاشم بدماء إخوتهم الأتراك ، فقد أبت جيناتهم أن تتفرق وحنت دماؤهم لأيام أبو الأيوب، ومحمد الفاتح، وجرت من جديد في عروق كل مسلم وكل عربي...

سر آخر يشي به بحر مرمرة المفعم بالدلالات، وهو تكاتف الشعب التركي بكل أطيافه؛ معارضة كانت أوحكومة، قبائل وأعرقا وأجناسا، حتى متسولوه كان لهم دورهم أيضا في الدفاع عن الحرية والكرامة لأهل غزة، وهي رسالة عظيمة في بعدها الانساني الطافي والبارز، لكن لها بعدا سياسيا آخر أشد خطرا وأبعد أثرا، بالنسبة لحكامن المساكين، وهو البعد السياسي، فما كان للسيد"الطيب" وعصبته أن يقطعوا كل هذه المسافات دفاعا عن فلسطين وأهلها لولا تصاتف الأهواء بينهم وبين شعبهم، وتعويلهم عليه في السراء والضراء، فهو وحده الكفيل بتوجيه بوصلتهم، وهذا للأسف الشديد ما نخشاه عليه، فمن هذه صفاته وهذه علاقته بشعبه لا يمكن أن ينسج علاقات تكامل وتعاون مع ملوكنا وأمرائنا حتى لا يكشف ظهورهم ويعريهم أمام شعوبهم، فيبدوا على حقيقتهم المستبدة المتبلدة، فأخشى ما يخشونه تطبيع العلاقة بينهم وبين شعوبهم، فلست أدري حقا أيهما أهون على الساسة العرب تطبيع العلاقة بينهم والكيان الصهيوني أم تطبيع العلاقة بينهم وبين شعوبهم؟ .

ما تزال أسرار بحر مرمرة وسفينتها تترى إنسانيا وسياسيا، وما يزال الطيب أردغان وعصبته يصلون الليل بالنهار دفاعا عن حقوق أبطال قافلة الحرية، وكشفا لأباطيل بني صهيون وأذنابهم، ومايزال حكامنا العرب يمشون إلى البيت الأبيض...يحجون للبيت الأبيض...يصلون للبيت الأبيض...فمتى يستقبلون بيت المقدس...؟ عسى أن يكون قريبا...

*كاتب موريتاني مقيم بالصين


في الإثنين 14 يونيو-حزيران 2010 12:46:44 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=7328