عبدالله الأحمر .. الشيخ والجبل
محمد عبدالعاطي

رجل بأُمَّة ..هكذا يقول عنه رجل الشارع اليمني؛ أما المحللون السياسيون – خاصة خارج اليمن- فيقولون:

إنه من الرجال القليلين في عالم اليوم الذين تفوق قوتهم – أحياناً ك ثيرة – قوة الدولة، أما الرئيس على عبد الله صالح فيصفه بأنه أكبر من الأحزاب، ويقول عنه: إنه من ثوابت الحياة السياسية في اليمن.. إنه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر..

يطلق عليه اليمنيون الشيخ ..دون مزيد من التعريف ..وفي هذا الكفاية للإشارة إليه.. تمتد جذور أسرته إلى قرون بعيدة حيث كان ملوك بنو الأحمر هم آخر ملوك حكموا الأندلس.. حينما يزور إسبانيا تحتفل به الحكومة هناك وينزل ضيفاً في أحد القصور التي كانت في يوم من الأيام مِلْكًا لأسرته..

طفلاً في عهد الأئمة

فتح الطفل عبد الله عينيه في بيئة امتزج فيها نقاء الهواء بأجواء السياسة المتغيرة.. أبوه الشيخ حسين الأحمر من رموز العمل الوطني في اليمن.. كان من أشد المعارضين لحكم الأئمة.. أَشْرَب أولاده كراهية ذلك الحكم الذي كان أقل ما يوصف به بالمتخلف.. كان الإمام يُطَوِّق اليمن بسياج من العزلة الحضارية والثقافية جعلت البلاد تتأخر عدة قرون للوراء.. أذكر والدي -عليه رحمة الله- حينما زار اليمن لأول مرة عام 1948 قال: "كأنك هبطت من أواسط القرن العشرين إلى أوائل القرن العاشر ..الناس يرتدون ملابس شبه عارية.. وسيلة المواصلات الوحيدة في العاصمة هي الحمار.. تسير فترى آلاف الناس وقد طَلَوْا وجوههم بالْقَار.. تسأل عن السبب فيقال لك: إن الإمام أخبرهم بأن من كان منهم يحبه ويخشى على نفسه من جن الإمام فعليه بطلاء وجهه بذلك.. وبالفعل كان من الناس من يحبه من جهة ومنهم من كان يخشى على نفسه العقاب حينما تُخْبَر كتيبة الجن التي كان يظن العامة في اليمن -آن ذاك- أنها الذراع الأيمن للإمام ..فَطَلَوْا جميعاً وجوههم بالقار الأسود" .!!

ترسبت كراهية هذا النمط الشمولي المتخلف من الحكم في عقل الطفل عبد الله.. فقرر منذ الصغر أن يُخَلِّص البلاد حينما يكبر من الأئمة جميعاً..

أعدموا والدي

كادت هذه الحادثة تُثْنِيه عن هذه الفكرة التي سيطرت على كيانه.. وكانت كفيلة كذلك بجعل والدته تمنعه من مجرد التفكير في الأمور السياسية جمعياً..

استطاع جن الإمام من الإنس – هذه المرة أن يُحَدِّدُوا موقع الشيخ حسين الأحمر وأخيه حميد أقوى الزعامات القبلية المناوئة لحكم الإ مام أحمد.. وفي جُنْح الليل توجه آلاف من جنود الإمام مدججين بالسلاح إلى مخبأ الشيخ حسين الذي فوجئ أفراد الحرس القليلون المرافقون له بهذا الحشد الهائل من العساكر.. وبعد ساعات قليلة من إطلاق النار المتبادل سقط فيها من سقط، وسَلَّم نَفْسَهُ مَنْ سلم على أمل أن يُفرج عنهم في مفاوضات قَبَلِيَّة تجري فيما بعد.. كان الشيخ حسين وأخوه حميد ممن سلموا أنفسهم لتلك الحملة.. لكن حُكْم الإعدام كان قد سَبَقَهُم إلى الزنزانة التي وُضِعوا فيها.. وهكذا شَبَّ الطفل عبد الله وصورة والده لا تفارق خياله.. وكلماته التي كان يقول فيها:" إن حياة الإنسان لا تساوي شيئاً إذا عاش لنفسه فقط لكنها تساوي الكثير إذا عاش لغيره.."

أمي تُذَّكِّرُني

حفظ الصبي عبد الله القرآن، وتلقّى تعليمه الشرعي كغيره من أبناء جيله في ذلك الوقت.. لكنه تميز عنهم بمصاحبته لكبار علماء عصره الذين كان يحرص والده الشيخ حسين على استضافتهم في بيته بمنطقة خولان الجبلية.. تلك المنطقة التي لها فضل كبير على سكانها؛ فقد ربتهم جبالها الوعرة على القوة والشجاعة..

وقد أضافت حادثة إعدام والده وعمه بُعداً جديداً لشخصيته.. حيث ازداد تصميمه على تخليص البلاد من ذلك الكابوس المسمي بالأئمة.. وكذلك والدته التي لم تَفْتُر همتها يوماً عن تذكيره بضرورة القصاص من قاتل والده.. وهكذا شاءت أقدار الله عز وجل أن تمتزج الدوافع الشخصية بالآمال الوطنية في تكوين شخصية ذلك الطفل الذي سيغير وجه الحياة السياسية في اليمن في السنوات القليلة القادمة..

وَثَّق عبد الله صلاته بالقبائل الذين اعتبروه الوريث الشرعي لرئاسة مشيختهم بعد إعدام شيخهم حسين الأحمر.

أمروا قضبان سجني

وما إن وصل عبد الله إلى سن السادسة والعشرين حتى نما نفوذه القبلي وسط قبائل "حاشد" التي تُعَد أكبر تجمع قبلي في اليمن، والتي تضم مئات البطون القبلية في داخلها..

وهنا سَمِع الإمام أحمد به وخشي على سلطانه من هذا الشاب الذي لم ينس يوماً دماء والده وعمه.. فقرر أن يعطي الفرصة لقضبان السجن في أن تُحَجِّم نشاطه.. وبالفعل ظل الشيخ الصغير عبد الله بن حسين الأحمر يئن من مرارة الاعتقال ثلاث سنوات.

ثورة وأنا بين الجدران

كانت الأنباء تأتيه خلالها بأن الأوضاع في الخارج لم تعد تحتمل.. وبأن هناك حركة سرية في صفوف الجيش تدبر للانقلاب.. وكانت اللحظة التي عاش يُمَنِّي نفسه بها طيلة حياته.. تحرك الثوار وأيّدتهم مصر برجالها وسلاحها.. وقامت حرب لم تشهد لها اليمن في تاريخها الحديث مثيلاً.. قُتل من الجيش المصري وحده على سبيل المثال قرابة 20 ألف جندي على أقل تقدير.. فما بالك بمن قُتل من مؤيدي الثورة.. وشاءت الأقدار أن ينجح الثوار..

ساعة القصاص حانت

ويخرج بعدها الشيخ عبد الله بن حسين وقد بلغ من العمر التاسعة والعشرين..خرج وهو يريد أن يشفي غليله.. ويقتص لوالده وعمه.. فجمع قبائل " حاشد " حوله وراح يطارد قوات الإمام التي لم تزل متحصنة خارج صنعاء.. واستطاع أن يحقق عليهم في عام 1962 انتصارات سجلت اسمه على رأس قائمة الثوار الأحرار.. ولم يستطع الإمام بدر آخر الأئمة الذ ين حكموا اليمن- أن يصمد أمام هجمات الشيخ عبد الله ورجاله.. ففرّ خارج اليمن.. وطُوِيت بذلك صفحة مثيرة من تاريخ اليمن استمرت عدة قرون لتفتح صفحة جديدة يبرز من خلالها الشيخ الشاب عبد الله بن حسين الأحمر كحلقة وسط بين رجل الدولة والزعيم القبلي..

وزيراً كنت للداخلية

فمنذ الأيام الأولى للثورة اليمنية انتُخب الشيخ الأحمر عضواً في مجلس رئاسة الجمهورية الوليدة.. ثم عاد الأمن إلى البلاد المضطربة في عهد ولايته لوزارة الداخلية طيلة ثلاث وزارت مختلفة بين عامي 1964 و 1965 .. حيث استعمل الشيخ نفوذه القبلي الواسع في ردع مثيري الشغب ومن اعتادوا الإجرام..

ثلاثة عقود في البرلمان

ثم رأى اليمنيون أن يضعوا دستوراً للبلاد ينظم أمر الجمهورية الفتية.. فانتخب الشيخ عبد الله رئيساً للمجلس الوطني الذي صاغ الدستور الدائم لليمن.. بعدها تأكد لليمنيين أن المكان اللائق بشيخهم الذي وصل إلى سن السادسة والثلاثين هو رئاسته لمجلس الشورى – البرلمان في ذلك الوقت وظل هذا المنصب حِكْراً على الشيخ عبد الله منذ عام 1971 حتى الآن، تخللته فترات خلت فيها الحياة السياسية لبعض الوقت من وجود برلمان منتخب، وحينما كانت الأمور تعود إلى طبيعتها كان الشيخ ا لأحمر يعود إلى منصبه على رأس الحياة النيابية في اليمن.

معاً لمحاربة الشيوعيين

أما مسألة رئاسته لحزب التجمع اليمني للإصلاح – الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن رغم أنه لم تربطه بهم علاقة تنظيمية من قبل فترجع إلى عام 1990 حينما رأى الشيخ الأ حمر أن الحياة السياسية في اليمن أصبح يتقاسمها حزبان رئيسيان هما: المؤتمر الشعبي العام -حزب الرئيس على عبد الله صالح-، والحزب الاشتراكي، وخشي الشيخ الأحمر من تنامي نفوذ الاشتراكيين وسيطرتهم على البلاد مرة أخري -خاصة بعد أن ذاق اليمنيون منهم الأمرّين في المحافظات الجنوبية- فأراد الشيخ أن يُكَوِّن حزباً يكون على رأس جدول أعماله تقليص نفوذ الشيوعيين القدامى في اليمن.. في الوقت الذي كانت فيه الحركة الإسلامية تبحث لها عن واجهة حزبية ووجاهة قبلية تساند توجهاتها.. فوجد الاثنان نفسيهما على طريق واحد.. فكان حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي حرص فيه مؤسسوه على عدم ذكر كلمة إسلامي؛ حتى لا يُفْهم منها أنهم هم فقط المسلمون وغيرهم ليسوا كذلك، وأسموه بالتجمع لأن الحزب – على حد قولهم يفتح أبوابه لكل من يريد أن يتعاون معهم، ولا يشترط أن يكون عضواً في جماعة الإخوان، ومنذ تلك ال لحظة والشيخ الأحمر رئيس للحزب وزعيم للتيار القبلي القوي الموجود في تكوينه.. وقد كان لحزب الإصلاح دور مهم للغاية في حرب الانفصاليين في الجنوب بعد تدهور الوضع العسكري للحكومة في صنعاء عام 1994

اتركوهم لنا

وكادت تحدث تسويات سياسية بين الرئيس على عبد الله وقادة الاشتراكيين في الجنوب لولا تدخل الإصلاح، وإعلانه الجهاد، وحشد آلاف الشباب، وتعاونت الحكومة معهم فأمدتهم بالسلاح اللازم وانطلق الشباب المتدين طالباً إما النصر أو الشهادة، واستطاع نَفَر منهم اقتحام قاعدة "العَنَد" التي كانت تُعَدّ واحدة من أقوى القواعد العسكرية التي أقامها الجيش الروسي لهم في منطقة الشرق الأوسط، وانتهت تلك الحرب في أقل من شهرين بفوز دعاة الوحدة بقيادة الرئيس على عبد الله وحلفائه من الإصلاح على الانفصاليين الذين لم يجدوا لهم ملجئاً إلا بعض البلدان المجاورة ليعيشوا فيها ما تبقى لهم من أيام في هذه الحياة ..

ويظل الأحمر يمارس دوره الهام كضابط للميزان في الحياة السياسية اليمنية، محافظاً على علاقة طيبة وذكية مع الرئيس على عبد الله صالح الذي ينتمي إلى قبيلة "سنحان" التي تعد بطناً من بطون حاشد التي يرأس مشايخها الأحمر.

أسماء عربية قديمة

في تلك الأثناء فكر عبد الله الأحمر أن يتزوج.. ووقع اختياره على أسرة طيبة، وكان من ثمرة ذلك الزواج: قَحْطَان، وحِمْيَر، وحَمُّود وغيرهم من الأولاد الذين اكتسبوا منذ الصغر لقب شيخ، ولتسمية الشيخ عبد الله أولاده بهذه الأسماء دلالة يقول عنها: إن هذه كانت أسماء لبعض ملوك اليمن في الماضي، ويعود تاريخ بعضهم إلى آلاف السنين لنعيد بعث الروح العربية الأصيلة في قلوب الأسر الحالية.

البرنامج اليومي

ورغم ضغط الأعمال المطلوب إنجازها في اليوم الواحد إلا أن البرنامج اليومي للشيخ عبد الله لم يتغير منذ سنين؛ حيث يبدأ عقب صلاة الفجر بقراءة ما تيسر من القرآن ثم تناول، طعام الإفطار والتوجه إلى مجلس النواب، وفي المساء يستقبل شيوخ القبائل، ويتدارس معهم مشاكلهم ويتصل بالمسؤولين في الحكومة للعمل على حلها، وفي الليل يأوي الشيخ إلى فراشه بعد أن يراجع كما يقول جدول أعماله ليرى ما تم إنجازه وما تم ترحيله للغد ..

صلاة الجمعة

ولصلاة الجمعة عند الشيخ الأحمر قدسية خاصة.. حيث يتهيأ لها في ساعة مبكرة من صبيحة الجمعة.. ويخرج في كَوْكَبة من رجاله.. إلى مسجد الدعوة المجاور لبيته في حي "الحصَبة" ليجلس في الصفوف الأولى يستمع بإنصات إلى الخطيب، ويحرص المصلون على الالتقاء بشيخهم عقب الصلاة، في جو من الود الصادق البعيد عن التكلف، ووسط سحب من دخان البخور السقطري الجميل الذي يسود جنبات المسجد..

فطرة مسلمة

ويتميز الشيخ الأحمر بفطرته الإسلامية النقية التي لم تلوثها بهارج المنصب أو ضغط المدنية الحديثة.. حيث يؤمن الأحمر بأن المنهج الإسلامي هو الأصلح لسيادة الأمن والاستقرار داخل أي مجتمع.. ويهتم بالقضايا الإسلامية عامة.. ويولي عناية خاصة بالقضية الفلسطينية؛ وبالأخص مسألة المسجد الأقصى الذي يرزح تحت نِيرِ الاحتلال الإسرائيلي البغيض.. ومن هنا كان كراهيته الشديدة لليهود، تلك الكراهية التي أملت عليه اتخاذ موقف أعاد الشعور بالارتياح إلى قلوب اليمنيين حينما علموا أن شيخهم بثقله القبلي يقف حائط صد أمام المحاولات التطبيعية للعدو الصهيوني مع اليمن.

موقفي مُشَابه فكيف ستكون نهايتي ؟

وقد ذكرني موقف الأحمر مع الوفد اليهودي الذي حاول زيارته في بيته حينما قام بطردهم بموقف السلطان عبد الحميد الثاني.

في صبيحة أحد الأيام -من أبريل الجاري (2000)- فوجئ الشيخ بهم في بيته.. طالبين مقابلته.. وقد راحت عدسات الكاميرا المصاحبة لهم في المسارعة بالتقاط صور للمكان ليوثقوا تلك المقابلة، وظلوا منتظرين نزول الشيخ إليهم.. وكانت المفاجأة غير المتوقعة في انتظارهم.. فما إن علم الشيخ بوجودهم حتى سارع بالنزول والغضب يتطاير من عينيه وقام على الفور بطردهم واصفاً إياهم بالمغتصبين للحق العربي، والمنتهكين للمقدسات الإسلامية وبأن أيديهم ملطخة بدماء الأطفال والنساء في جنوب لبنان، وقال بعد أن أغلق باب بيته خلفهم: إنكم أشد الناس عداوة وأكثرهم حقداً إلى العرب والمسلمين من أي جنسية أخري.

وقد ساد شعور بالفخر وسط اليمنيين نتيجة هذا التصرف النبيل من شيخهم الذي أعاد إلى أذهانهم صورة السلطان عبد الحميد.. لكن تُرى هل سينسى اليهود للشيخ الأحمر ذلك..؟!

* المصدر إسلام أون لاين


في السبت 29 ديسمبر-كانون الأول 2007 02:51:08 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=3049