بيوت الشوارع في اليمن
صادق سريع

اقتربت منه، أظنه سيأنس بحديثي والحيرة تراودني، بأي لغة أحدثه. تجرأ فضولي. فسألته عن حاله. لم يجب، فقط، ظل محدقاً نحوي. اللهم اجعله خير. تراجعت قدماي. تركته في حاله وذهبت في حالي وأنا أرقب حركة يديه. تذكرت ما قاله لي المدير التنفيذي لمشروع مكافحة التسول بأمانة العاصمة: "لا توجد جهة مختصة. لو أخذنا المجنون أين نطرحه؟! هل يعقل أن نطرحه بين المتسولين؟! هذا على المصحات النفسية أو السجن المركزي والإصلاحيات، وقد وجهت بعدم القبض على الحالات النفسية لأن المشروع أنشئ لجمع وتصنيف حالات التسول فقط". ما يؤكد ذلك خلو الشوارع والجولات ليلاً من النائمين من غير المجانيين إلا ما ندر. عيناي رصدتا مشهدا آخر: مواطنين يعيشون في بيوت من الصفيح، ما يشبه مظلات تحميهم من عوامل الطقس الحار وربما البارد لكنها لا تحقق الغرض عندما تهطل أمطار أو تهب رياح. لم أسأل أحدا فيها, لكني سألت نفسي عن هذه المظاهر المؤلمة في مدينة سميت عاصمة!

لا شك في أن التجمعات العشوائية (بيوت الصفيح) بأمانة العاصمة, تشكل عائقاً عمرانياً يحد من
الخطط التنموية, مما يوجد التفاوت بين المظاهر العمرانية, بشكل يتنافى مع الموروث الثقافي والتراثي للعاصمة الجميلة، وما تخلفه من تشويه، تشكل مصدراً لكثير من الأوبئة والأمراض الناجم عن البيئة الملوثة. ما رأته العين يصفه القيرعي بـ"وصمة عار على جبين الجهات المختصة". لكن هناك جهود بذلت, فأمانة العاصمة ووزارة الأشغال العامة والطرق, قد أنشأت 1150 وحدة سكنية بكامل خدمات البنية الأساسية, ضمن توجهات الدولة لتوفير السكن الملائم لذوي الدخل المحدود والأسر الفقيرة (بيوت الصفيح والمباني المخالفة لحرم السائلة).

أمين الارياني, يعمل حالياً مديراً لمدينة سعوان الجديدة بأمانة العاصمة، يقول انه تم صرف 987 وحدة سكنية استفاد منها 987 أسرة من أسر التجمعات العشوائية غير اللائقة (بيوت الصفيح)، تم من خلالها معالجة مشكلة السكن لثلاثة مواقع، يقول الارياني أنها "أهم المواقع": الفرزة (باب اليمن), حي العصيمي (شارع 45)، وعصر الكسارة وهو أول موقع تم ترحيله إلى مدينة سعوان. كل هذا لم يحل المشكلة التي لا تزال تشكل تشوهاً لعبق صنعاء القديمة المدينة التي طربت لها خيوط الوتر وغنت لها أجمل الأصوات. وتبقى ثلاثة مواقع رئيسة يعيش سكانها في بيوت الصفيح. يقول الارياني: "تحتوي أطراف أمانة العاصمة على عدد من المحاوي، موزعة على ثلاثة مواقع رئيسية: موقع قاعة المؤتمرات ويعيش فيه 489 أسرة، فيما تعيش 220 أسرة تقريباً في "حي السواد ـ دار سلم"، أما موقع "بني حواث" فتعيش فيه 230 أسرة تقريباً". وهناك تجمعات صغيرة غير محصورة موزعة على مواقع مختلفة بأمانة العاصمة, تشير الإحصاءات إلى أن عدد سكان هذه الشريحة الاجتماعية يصل إلى 900000 نسمة تقريباً, يعيشون في عموم محافظات الجمهورية, منهم 31000 تقريباً يعيشون في أمانة العاصمة، أما محافظة تعز فيعيش فيها 45000 تقريباً, تمثل النسبة الأعلى من بين المدن اليمنية.

محمد القيرعي, يعمل حالياً رئيسا لمنظمة الدفاع عن الأحرار السود, مصدر تلك الإحصائيات, الذي عبر عن عدم رضاه بالواقع الذي يعيشه "الاخدام" لأنه امتداد للوضع الطبقي الذي يعانونه على امتداد الساحة اليمنية في سياق الوصمة الدونية التاريخية، وعدم الاعتراف بقضيتهم. وكأن ما يريد القيرعي أن يقوله أن الأخدام منتقصو حق المواطنة في إطار السياسة الاجتماعية؛ لكن الدستور اليمني كفل الحق لكل مواطن يمني في حق المواطنة بعيداًَ عن التسميات الطبقية. فماذا وراء إضعاف درجة الاستعداد الاجتماعي لاستيعاب هذه الطبقة في القوام الاجتماعي العام (إطار المواطنة)؟! يرى القيرعي أنها "قيم اجتماعية موروثة تنتقص من قيمة الاخدام ومواطنتهم, وتشريعات القوانين التي تمنعهم من اكتساب الحق المهني", لكن ما تحقق لهم في مدينة سعوان, يعتبر في خانة أعلى الحقوق الممنوحة لهم, بل لم تمنح لأي مواطن يمني (بيوت سكنية, بدلاً من بيوت الصفيح). فهل يكون هذا الحق مقابل ما قاله القيرعي 98 في المائة عمال نظافة يعملون بالأجر اليومي، يعكس التجريد من أقل أسباب المواطنة العادية والحقوق المهنية المكفولة. "إذا فإن شحة المهن. وفقدان القدرة على النهوض، أسبابها الافتقار لمقومات التطور الاجتماعي, باعتبار أن طبقة الأخدام هي الأفقر في البلاد،ما مؤداه كسر عزيمة جهودهم الذاتية ويخلف تشويها خرج من نطاق البيئة العمرانية إلى نطاق أوسع. لم ينته سيناريو التشويه اليومي لصنعاء عاصمة الروح, من قبل ممتهني التسول أو من يمارسون عملية النصب والاحتيال على الآخرين، الذين جعلوا من الشوارع "بيوتا في الهواء الطلق" بشكل يعكس الوضع الاقتصادي, لمن داوموا على استخدام "الشلك" لتشميم الأطفال الصغار ليناموا وقتاً أطول حتى يتسنى لهم ممارسة التسول وجمع مبالغ مالية أكثر دون أن يشغله أحد حتى وإن كان ذلك على حساب صحة أطفاله الصغار. وهو ما أكده القليصي بقوله: "ينام الطفل 24 ساعة, لأنه مخدر، وهذه جريمة في حق الأطفال يمارسها المتسولون الكبار من أجل المال".

مشروع مكافحة التسول يحتوي على عدد من العنابر, يتوفر في كل عنبر عشرون سريرا، بكامل التجهيزات، ويصنف حسب الفئات (للرجال, النساء, المعاقين، والأطفال). تمثل النساء النسبة الأعلى من المتسولين من أصل 60 - 70 متسولا يحويهم المشروع. الجدير بالذكر أن المشروع يتكفل بتغذية المتسولين الذين يتم حجزهم عبر البلاغات من أمانة العاصمة، أو ما يقوم به المشروع من جولات في شوارع العاصمة لتعقبهم وإلقاء القبض عليهم ونقلهم إلى المشروع.

هنا تبدأ المرحلة الثانية بكادر متخصص مهمته فحص البيانات والمعلومات وتدوينها في استمارات يتم من خلالها تصنيف كل حالة. فيما تبدأ المرحلة الثالثة بالتنسيق مع الجهات الأمنية والقضائية لمعرفة الذين يقومون بممارسة النصب والاحتيال ممن هم في غنى عن التسول. أما الحالات المستحقة للضمان الاجتماعي أو المعاقون فيتم تحرير رسائل إلى الجهات المختصة المتمثلة في الضمان الاجتماعي أو جمعية رعاية وتأهيل المعاقين. أما الأطفال فدار الطفولة الآمنة أمن لهم (التوجيه والإرشاد) كل هذه الإجراءات التي يقوم بها مشروع مكافحة التسول والتعهدات التي تعهد بها المتسولون نلحظ أثرها عند البعض من خلال تخوفهم من سيارة المشروع, بشكل يتوافق مع ما يقول القليصي: "من يمتهن هذه المهنة تعمل لهم محاضر ويحولون إلى النيابة". أما البعض الآخر فلم يعط لكلامي أي حساب, كأن الشيء لا يعنيه, لكنه سيتذكر ذلك يوماً ما,عندما تتوفر الإمكانيات بما فيها البشرية المؤهلة أو وسائل المواصلات التي تقوم بمتابعة الحالات التي تزاول عملية التسول في حين لا توجد إلا ثلاث وسائل مواصلات (باص 12 راكبا) منها وسيلتان عاطلتان, أما الثالثة فنشيطة على الدوام. ومن أجل عاصمة نظيفة يتفق حاضرها مع ماضيها وجوهرها مع كلمات الشعراء وذرات الهواء الصنعاني, ولتبقى رسالة تترك أثرها في ذاكرة الزائر أو السائح الأجنبي, فقد حملني الارياني حزمة مقترحات يطالب فيها "بتفعيل التشريعات القانونية الرادعة للحد من انتشار ظاهرة السكن العشوائي، وتشجيع الهجرة العكسية، واتخاذ سياسة المشاركة الشعبية والبناء بالجهود الذاتية، وتفعيل دور الرقابة والتفتيش البلدي للأراضي الفضاء من ممتلكات الدولة"، والتنفيذ معقود بنواصي الإمكانيات التي ستعالج إشكاليات بيوت الصفيح ومظاهر حالات التسول. ويبقى حال المجنون بدون حلول، ولا جهة تهتم به على الرغم من أن بعض الشوارع تشتكي مما يخلفه. وقد قرر المشروع أن يتركه، "فلا بد أن تنشأ لهم أماكن متخصصة"، وهذا ما يطالب به القليصي, ليعودوا للعيش بين أفراد المجتمع ويسلم الشارع من مخلفاتهم الكيميائية والبيئية، والوقاية خير من تكليف عامل النظافة أعباء يفترض أن يكون لها علاج آخر من بقاء المجنون في شارع العقال. ويتمنى القيرعي من الجهات المختصة "أن تتخلص من مركب النقص في نظرتها للاخدام, وتعمل على استيعاب البعد الكارثي لمعضلتهم الإنسانية"، فهل تحقيق التمنيات سينهي تشويه بيوت الصفيح لمدينتنا...!؟

وكالة سبا


في الأربعاء 01 أغسطس-آب 2007 10:54:54 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=2254