تركيا.. نجاح غير قابل للاستنساخ
نبيل شبيب
نبيل شبيب

ما وقع في تركيا انتصار كبير بمنظور تاريخي، تحقق على مفصل رئيسي من مفاصل التطورات الجارية بقوة دفع ذاتية أو تحت تأثير قوى دولية وإقليمية تسعى لصنعها وتوجيهها، وتشمل المنطقة الإسلامية عموما. وما وقع يمثل في الوقت نفسه فوزا "اعتياديا" منتظرا على ضوء معايير توقعات النجاح والخسارة في أي انتخابات حرة تجري بعد تحقيق منجزات ملموسة في الواقع المعيشي للناخبين. والجمع بين هذا وذاك ضروري لاستيعاب حجم الحدث نفسه وطبيعته من وراء انتخابات 22 يوليو 2007م، وكذلك لاستخلاص معالم التجربة التركية التي يجري الحديث عنها كنموذج جدير بالاهتمام من أجل بلدان إسلامية أخرى، وتحديد ما يمكن الاستفادة منه وما لا يمكن.

معالم خاصة بالنموذج التركي

ليس أمرًا بسيطًا أن تسقط في الانتخابات للمرة الثانية أحزاب تُعتبر عريقة في تمسّكها بإرث مصطفى كمال، وتحظى علنًا بتأييد القوات العسكرية التي لا تزال تعتبر نفسها الحارسة على ثكنة تطبيق العلمانية التي فرضها على تركيا، ثم أن يفوز في تلك الانتخابات، للمرة الثانية، حزب انبثق من الأوساط الإسلامية، ولا ينقطع وصفه بالإسلامي المحافظ، ويظهر زعماؤه مع نسائهم المحجبات في المعركة الانتخابية وفي الاحتفالات بالفوز، في بلد جعل الحرب على الحجاب رمزا سياسيا لعلمانيةٍ يعضّ عليها بالنواجذ والبنادق.

وأردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية كان حريصا على متابعة المسيرة دون عراقيل، بعد الإصلاح الذي حققه في الفترة التشريعية الأولى، فأراد فوزًا يمكّن حزبه من تشكيل الحكومة بمفرده، كضمان لاستقرار سياسي واقتصادي لم تعرف تركيا مثله منذ إعدام عدنان مندريس الذي فاز مع حزبه آنذاك ثلاث مرات متوالية فوزا ساحقا، على الأحزاب العلمانية نفسها، فما عادت لها السلطة آنذاك إلا على ظهر دبابات انقلاب عسكري.

العنصر الأهمّ من سواه هو أن أردوغان وحزبه استوعب الواقع القائم في بلده كما هو، والأرضية التي يتحرّك عليها، والشروط والظروف والمعطيات المفروضة، محليا ودوليا، وحدود ما يمكن تغييره منها أو إضافته إليها، كما أتقن قواعد لعبة الطرف الآخر، المتمسّك بعلمانيته الأصولية، والممسك من داخل الثكنات بخناق النظام الديمقراطي القائم، وكذلك لعبة الطرف الدولي، الغربي على وجه التخصيص، ومداخل العلاقات معه، سواء عبر حلف شمال الأطلسي، أو عبر الاتحاد الأوروبي، أو عبر العلاقات الثنائية لا سيما مع الولايات المتحدة الأمريكية.

إن تحديد المنطلقات شرط أوّلي للتحرّك على طريق التغيير أو الإصلاح، والشرط الثاني هو اختيار الوسيلة الأنسب، للتعامل مع واقع قائم على طريق صناعة واقع جديد، تنشأ فيه معطيات يمكن الاعتماد عليها لخطوة تالية.

فكان مما يلفت النظر في مسيرة أردوغان وحزبه مثلا، التحول من معارضة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى تبنّي الالتحاق به كما لم تفعل حكومات سابقة، ثم المضي بإصرار شديد على هذا الطريق إلى لحظة زمنية وضعت الزعماء الأوروبيين، لا سيما الرافضين عضوية تركيا لأنها دولة مسلمة، أمام ضرورة اتخاذ قرار واضح، من وراء مناورات سياسية طويلة، ومشى معهم لهذا الغرض إلى درجة استصدار قوانين يعلم ويعلمون أنها مرفوضة على مستوى قواعد حزبه وعلى مستوى ناخبيه من عامة الشعب التركي، ثمّ أصبحت الحصيلة الحقيقية من وراء ذلك كله هبوط أسهم الرغبة الشعبية في الانضمام إلى أوروبا داخل تركيا نفسها، إلى جانب أشواط كبيرة قطعتها تركيا في مسيرة الحقوق والحريات وفي المسيرة الاقتصادية، بما يجعل مسألة الانضمام نفسها لا تأتي لتركيا بتلك الميزات التي كان يجري التلويح بها لكل دولة حديثة الانضمام تحت عنوان دعمها أوروبيا لتلحق بالمستوى الأوروبي المتقدم، وبتعبير آخر لم يعد هدف الانضمام هدفا حيويا من الدرجة الأولى، وإن بقي التمسك به وسيبقى حتى يتم التقرير النهائي بشأنه.

والجانب الأهم في إتقان أردوغان وحزبه للعبة الخصم الداخلي، العسكري أو العلماني الأصولي، من القيادات العسكرية والحزبية، هو إعلان التمسك بالنهج العلماني، المفروض على البلاد على كل حال، غير أنه -وهنا أحد المكامن الرئيسية لتميز المسيرة التركية- كان تمسكا بعلمانية يجردها تدريجيا من أسلحتها الأصولية فكرا وعقيدة، والعسكرية الإملائية تطبيقا وتنفيذا.

كان مما يلفت النظر مثلا أن شعار حرية العقيدة الذي رفعه العلمانيون الأصوليون أصبح جزءا من واقع يعمل حزب العدالة والتنمية لتحقيقه رغما عنهم وليس برضاهم، وإن بقيت فيه شوائب، لا شك أنها قابلة للاضمحلال في بلد ثبتت استحالة أن تنسى غالبية أهله مبادئ ثابتة في عقيدتهم وتاريخهم الحضاري، مثل مبدأ "لا إكراه في الدين".

كما أن نهج الديمقراطية الذي كان يُصوّر وكأنه بضاعة يحتكرها العلمانيون الأصوليون، وهم يقيدونه بأشد القيود المفروضة على الآخر، تحوّل إلى نهج يكشف عن تلك القيود، وهو ما ساهم في تساقطها أو اهترائها.

وكان ذلك يجري بصورة موازية لجهد حقيقي يُبذل من أجل مكافحة البطالة، والفقر، والتضخم، والانغلاق الاقتصادي، والقروض الأجنبية، فأصبح النجاح الميداني في مقدمة ما ميز سنوات حكم أردوغان وحزبه، وانعكس في الحياة المعيشية اليومية، حتى بات الفوز في الانتخابات الأخيرة محتما، فلم يعد السؤال المطروح قبلها يتجاوز حدود حجم الفوز المنتظر، هل يسمح بالانفراد في تشكيل الحكومة أم يفرض ائتلافا ما مع حزب أصغر.

بعد إقليمي في حدث تركي

يأتي الفوز الانتخابي الكبير في تركيا في مرحلة تاريخية مفصلية يجعل من المستحيل أن يبقى دون آثار إقليمية، وكذلك على صعيد العلاقات الدولية التي أصبح في مقدمة معالمها المعاصرة تلك الهجمة العسكرية وغير العسكرية على المنطقة الإسلامية، مقترنة بادعاءات "استعلائية" حول نشر الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان، بأي ثمن، ولو كان من قبيل ما شهدته وتشهده أفغانستان والعراق، ثم ذلك النكوص المزري عن ذكر تلك الادعاءات، مع ظهور أن التيار الإسلامي هو الذي يحظى بتأييد الناخبين، حيثما نُصب صندوق للتصويت "الديمقراطي" على أي مستوى من المستويات.

ووسط هذه التقلبات تظهر مقولات عديدة عن "النموذج التركي"، بعضها ما يصدر عن دوائر غربية حرصت في الآونة الأخيرة على طرح علمنة الإسلام أو علمنة الإسلاميين، واعتبار ذلك شرطًا لتأييد "اندماجهم" في تحولات ديمقراطية "مرجوة أو محتملة". وبعضها الآخر يصدر عن دوائر إسلامية، ترى في الحدث التركي نموذجا قابلا للاستنساخ في البلدان الإسلامية الأخرى. وكلتا الصيغتين أقرب إلى شعارات منهما إلى "نهج" عملي قابل للتطبيق.

القوى الغربية، السياسية والفكرية والإعلامية، في حيرة كبيرة على صعيد التعامل مع النموذج التركي نفسه، وهي أيضا في مرحلة إعادة النظر في أساليب التعامل مع المنطقة الإسلامية بمجموعها بعد أن غلبت عليها "عسكرة الهيمنة الأمريكية" وتكاد تنتهي بكارثة بمنظور المخططات الغربية. فما يصدر عنها بشأن النموذج التركي لم ينضج عند من يطرحه، ناهيك أن يصبح أرضية صالحة للانطلاق منها في بلدان أخرى.

الحديث من منطلق غربي عن النموذج التركي ما زال يطرح على التيار الإسلامي علمانية أصولية، رغم أنها أخفقت في تركيا، وهذا مما يجعل عنونة الحديث بعبارة "نموذج تركي" متناقضة مع نفسها. ولو صح أن المقصود هو تقليد مسيرة حزب العدالة والتنمية؛ فالمفروض إذن أن يتبع التيار الإسلامي في بلدان أخرى نهجا يؤدي إلى التخلص من مثل تلك العلمانية الأصولية، ومن قيودها العسكرية والحزبية على النهج الديمقراطي. وليس هذا هو المقصود في الأطروحات الغربية -حتى الآن على الأقل- إنما المطلوب دعم من تسميهم الدراسات الغربية -كدراسات مؤسسة راند- "المسلمين العلمانيين المهملين" في المنطقة الإسلامية، ليكونوا القوة المواجهة للتيار الإسلامي.

بينما تفتقر دعوات "اتباع النموذج التركي" في الأوساط الإسلامية افتقارا أكبر إلى تحديد دقيق لما يمكن اتباعه أو استنساخه وما لا يمكن تحت عنوان "النموذج التركي".

ليس في البلدان الإسلامية الأخرى ما يشبه الوضع التركي المفروض من عهد كمال أتاتورك، وإن كان بعضها يطرحه من باب تقليد ناقص أو أعرج.

وليس فيها إقرار بنهج ديمقراطي فيه فسحة كبيرة من شروط التعددية والاحتكام إلى الإرادة الشعبية، بغض النظر عن أنه مقيد أو غير مقيد بقيود العلمانية العسكرية، فلا يمكن أن ينشأ حزب شبيه بحزب العدالة والتنمية، ليعمل بأسلوب شبيه بأسلوبه.

وليست مسيرة الارتباطات التركية بالعالم الغربي متطابقة مع مسيرتها في بلدان إسلامية أخرى.

هذا ناهيك عن المعطيات الاقتصادية والمعيشية والفكرية وغيرها.

إن القاسم المشترك الأعظم في غالبية البلدان الإسلامية الأخرى هو الاستبداد المختلف في جوهره عن التعددية والديمقراطية المقيدة في تركيا. وهو استبداد يلبس في كل بلد رداء يختلف عما يرتديه في بلد آخر، فقد يكون هنا عسكريا صريحا، وهناك غير ذلك، إنما يبقى هو العنصر الأظهر للعيان، بالمقارنة مع علمانية تتبناها أحزاب محلية، بعضها في مواقع المعارضة في الدرجة الأولى، كما يتبناها أفراد يجدون من خلال الولاء لكل حاكم مواقع قريبة من صناعة القرار. أما الاستبداد فيمثله أفراد ببزة عسكرية أو دونها -بعد الوصول إلى السلطة- وتمثله أحزاب تجد في رفع شعار العلمانية ما يمكّنها من تحقيق التقاء المصالح، فيما بينها، أو مواجهة التيار الإسلامي الشعبي، أو للتلاقي مع قوى أجنبية، وفي سائر الأحوال تبقى العلمانية وسيلة مرتبطة بما يحقق مطامع ذاتية في الدرجة الأولى، ومرتبطة بعنصر توارث مراكز القوى وصناعة القرار في ميادين متعددة، لا سيما الفكرية والأدبية والإعلامية.

الاستنساخ مستحيل والإصلاح حتمي

إن ما يعطيه النموذج التركي يعطيه في مجال آخر، للقوى التي تتطلع إلى الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي في البلدان الإسلامية الأخرى.

أول ما يستحيل استنساخه من التجربة التركية هو ما يقال عن التزام إسلامي بمرجعية علمانية.. كما صنع حزب العدالة والتنمية.

ولأن العنصر الأبرز في تركيا هو العلمانية الأصولية مع ديمقراطية مقيدة وفي سواها هو الاستبداد مع علمانية ضعيفة، تتحول تلك المقولة في حالة تطبيقها إلى التزام إسلامي بمرجعية الاستبداد للوصول إلى منظومة الحريات والحقوق، وهو أمر متناقض مع ذاته.

وفي تركيا لم تكن مسيرة انتزاع الحقوق والحريات من أيدي محتكريها مرتبطة بتبنّي علمانيتهم، إنما كانت رغم قيود علمانيتهم الأصولية.

ولم يكن اتباع نهج اقتصادي يهبط بنسب التضخم من مستوياتها الأسطورية، ويحقق الفوائض في الموازين التجارية، ويحدّ من الفساد، وليد التمسك بالعلمانية من جانب أردوغان وحزبه، وإلا لتحقق شيء من ذلك في عهود من سبقوه ممن كانت العلمانية شعارهم وحصنهم العسكري، إنما هو نجاح تحقق نتيجة الخروج من قفص الشعارات العلمانية الأصولية ومن واقع الفساد المستشري عبر أحزابها، إلى واقع التخطيط والتطبيق العملي الواقعي على طريق نهضة اقتصادية تنطوي على مكافحة الفساد.

وفي تركيا كان من وراء الفوز في انتخابات 2007م مسيرة طويلة، من مراحلها سجون العلمانية الأصولية، وأمام حزب العدالة والتنمية وزعمائه مسيرة أطول للتخلص النهائي من السجون وصانعيها.

ويحتاج أي بلد إسلامي آخر يراد فيه الوصول إلى هدف الإصلاح والتغيير، إلى مسيرة مشابهة للنموذج التركي في "معالم أساسية" يسري مفعولها في كل بلد، ولكن لا تكون مشابهة له من حيث خصوصياته ومن حيث الأساليب والوسائل؛ فهذه مرتبطة بتركيا وظروفها والشروط القائمة فيها.

وأبرز تلك المعالم الأساسية لمن يريد الإصلاح والتغيير:

1- استيعاب الواقع المحلي المتميز عن سواه في كل بلد على حدة، واستيعاب الواقع الإقليمي والدولي استيعابا متجددا مع تطوراته الجارية دون توقف.

2- القدرة على التفاعل مع المتغيرات تفاعلا مدروسا متوازنا وسريعا، بما يشمل التقويم الدائم لمجرى الأحداث والتطورات والقوى المؤثر فيها، وتعديل المخططات والمناهج بما يتناسب معها.

3- الانطلاق المرحلي من الواقع القائم وليس من تجاهله، أو تجاوزه رغم وجوده، أو اعتبار الصدام المباشر مع معطياته هو الوسيلة الوحيدة للتعامل معه، ومثل هذا الانطلاق المرحلي يتطلب ابتكار أساليب ووسائل، تختلف من بلد إلى بلد، وتتميز بتجانسها واندماجها مع معطيات موازين القوى ومواطن تأثيرها في كل بلد على حدة.

4- اعتبار الإنجاز المرئي في الميادين الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية وغيرها مما يرتبط بحياة الأفراد والشعوب ارتباطا مباشرا، هو الأساس الأول في تحديد الأهداف المرحلية، والعمل لها وفق نهج ثابت قائم بذاته، يراعي المعطيات الواقعية وينطلق منها، واعتبار ذلك شرطا لا غنى عنه -وليس شعارًا- في أي مسيرة تريد أن تصل إلى هدف الاحتكام إلى الإرادة الشعبية، آجلا أو عاجلا.
 

 

5- توطين الثوابت في الأهداف البعيدة، وهي الثوابت التي يكون "الإنسان" محورها، ويكون تحريره مدارها، بما يشمل التخلص من مختلف أشكال القهر والاستبعاد والاستغلال في مختلف الميادين، ويشمل البناء المستقبلي القائم على مشروع حضاري متكامل.

#كاتب ومحلل سياسي سوري مقيم في ألمانيا.

 

 
في الخميس 26 يوليو-تموز 2007 01:17:20 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=2222