ألا يكفيك. . أيُّها السيّدُ الرئيس؟!
منير الغليسي
منير الغليسي

قبل سنتين وبضعة أشهُر ، أيْ قبل اندلاع ثورة الشعب السوري على أركان نظامه ، كنت قد كتبت مقالة أدبية ، بعنوان (رفقاً بولدك أيُّها العاق؟!). . تصف وحشيّة رجل سوريّ ضدّ أقرب الناس إليه ، أفلاذِ كبده ، الذين لا يتجاوز أكبرُهم سنّ الخامسة ، وأصغرُهم عامَه الأوّل!!

كنت في حَيْرة من الأمر. . هل ما تناهى إلى سمعي حقيقة واقعيّة ، أم أكذوبة مجردةٌ من الواقع. .أم أن الحادثة سبْق صحفيّ مبالغٌ فيه؟!. . لكنْ ، سرعان ما تلاشتْ ، أمام عينيّ ، حُجُبُ الحَيْرة ، وانقشعت غُيومُ دهشتي وأنا أطالع – حينذاك – أكثرَ من جريدة ، وأكثرَ من موقع إلكتروني إخباري. .يؤكد ذلك.

كان الأب السوري ، وهو في العِقد الثالث من العمر ، ولسبب حقير ، ونكاية بأبيه الكهل. .قد تلذّذ بإعدام صغاره الأربعة غرْقاً، في سدّ الفرات ، بريف حلب ، في قرية تُسمّى (المنكوبة!).

اليومَ ، الفجيعةُ أكبر ، والمصاب أعظم. . فنحن نرى مشاهدَ الدماء والدمار. .صورَ المجازر والمقابر. .مناظرَ النساء والأطفال ، المرعوبين والمفجوعين. .صورَ الأحياء والأموات ، المشوّهين والمذبوحين والمحروقين.

اليوم ، نرى اللاجئين منهم في الكهوف والمغارات. .هرباً من غُول الدمار المتوحّش ، الذي ما ترك على الأرض من شيء إلا أتى عليه. .هرباً من رصاص قناصته ، وقصف طائراته ، وسقوط براميله المتفجرة على الرؤوس. .

نرى الفارّين بأجساد تنوءُ بأثقالها ، بخوفها ووجعها. .تقطع المفاوز والأنهار...

نرى عائلاتٍ تعبر الحدود لتترك الأوطان!!. .رجالاً يحملون عِبْء نسائهم ، ونساءً يحملْن عبء أطفالهن ، ومنهم الرّضّع. .أطفالاً يحملون عبء الفجيعة والرعب دون أن يدركوا شيئاً مما يجري ، إلا أنه يجري!!

أطفالٌ هجروا طفولتهم وبراءتهم مبكّراً. .هجروا مرحهم ولـُعَبهم رغماً عنهم ، تركوا خلفَهم رياضهم ومدارسهم ورحلوا نحو المجهول!!

رجالٌ رمَوا من أيديهم أسافين البناء والتشييد. . نساءٌ تركْن ، رغماً عنهن ، بناء مجتمع. . مجتمعٌ ترك بناء وطن كان بمقدوره أن يسَع الجميع. . لو لعبة السياسة المتفجّرة.

أطفالٌ عبروا الحدود. .

نساءٌ عبرْن الحدود. .

رجالٌ عبروا الحدود. .

كبارٌ صغارٌ عبروا الحدود ، ولا يزالون يعبرون كل يوم حدود الوطن. .إلى وجع بلا حدود ، شتاتٍ بلا حدود. . إلى مستقبل مجهول بلا حدود!!

جميعُهم رحلوا. . تركوا خلفَهم وطناً ينزف موتاً ودماً ودماراً. . بلا حدود!!

يا!!!. . أيُّ غازٍ هذا...؟!

أيُّ محتلّ هذا شرّد الملايين ، يتّم الأطفال ، أرمل النساء. .ذبح الكبار مع الصغار؟!

أيُّ غاصب هذا استطاع أن يهجّر أصحاب الحقّ عن حقّهم ، في ظلالِ أيّام ، فأسابيعَ ، فأشهُر معدودة. . ويفرّقهم في الأصقاع شذَرَ مذَر؟!

ما الذي يجري...؟!

لم تعُدْ قرية (المنكوبة) من حلب منكوبة ًوحدَها. .

ولم يعدْ ذلك السدّ أو البحيرة الصغيرة وحدها مسرحاً للجريمة. .   

ولم يعدْ ذلك المجرم أباً ضاقت به معيشته في الحياة الدنيا ؛ فاختلف مع أبيه لسبب مادّي ، فألقى ببنيه في بحيرة من الماء. .

ولم تعدْ المادّة سبباً في الإغراق أو الجريمة بأنواعها. .

ولم تعدْ الجريمة محصورةً على فاعل واحد. .

ولم يعدْ الفاعلُ يحمل وجهاً واحداً ولوناً واحداً...

ما الذي يحدث في سوريّة اليوم؟!

سوريّة كلّها ، من أقصاها إلى أقصاها ، منكوبة. .

سوريّة كلّها ، بحضرها وريفها ، أصبحت بحراً للموت يغرق فيه شعبٌ بأكمله. .

المجرم ليس أباً ، والضحيّة ليس أبناءً. . المجرم أصبح سُلالة ً من نار ، لا من طين ، أصبح ذرّيّة ، قرابة ، و ولاءً. .صار سياسة قبيحة الوجه ، عفنة الجسد ، نتنة الريح. . المجرم صار متعدّد الوجوه والألوان والجريمةِ وأدواتها. .

والضحيّة. . الضحيّة شعبٌ بأسره!!

معذرة أيّهُا الحاكمُ. .

لنفترضَ أنّك غيرُ مجرمٍ. . أنك محقٌّ فيما تفعله. .

لنفترضَ أن شعبكَ - كلّه أو جلّه أو قلّة قليلة منه - على خطأ ، ومعارضيك كلّهم على خطأ. .وأنت وحدك المصيب. . لنفترضَ ذلك.

لنفترضَ أنّ الجماعات المسلّحة ، والمعارضة بألوانها. .إرهابيّة ومجرمة ، ومنتسبيها قتَلة...

لنفترض أنّ هناك مؤامرةً خارجيّة وداخليّة ضدّ مصلحة بلدك وشعبك. .

لنفترضَ أنّ هناك من يرسل الإرهابيين من الخارج ، ويمدّ بالسلاح الداخلَ. .

وربّما نفترض أنك مجبرٌ ، أو مهدّدٌ من قوىً دوليّة. .

لنفترض... ، ونفترض... ، ونفترض...

أفلا يكفيك ما حدث لبلدك. .لشعبك؟!

ألا يكفي أنك تشفّيت من خصومك ، ونكّلت بهم ، وأبليت فيهم بلاءً (حسناً). .حتى شرّدْت بهم وبشعبك الأصقاع والبقاع يسألون الناس إلحافا؟!

ألا يكفيك فخراً أنك أثبتّ مدى قوّتك وصلابتك وصبرك وجلَدك وحِنكتِك. . أمام الداخل والخارج على مدى أكثر من سنتين ، بفصولهما وتقلّباتهما؟!

ألا يكفيك ذلك كلّه ، فتحتكِم لقلبك بدلاً من عقلك. . من أجل مصلحة وطنك وشعبك كما تردّد؟!

ألا يكفيك ما جرى. . من أجل 25مليون ألمٍ وفجيعةٍ ، سَجْنٍ وموتٍ ، تشرّدٍ وقهرٍ وضياع...؟!

ألا يكفي ذلك. . من أجل هذا الشعب الذي تفاخرُ بعظمته وتراه بعينيك يتجرّع الموت والجوع والغصص. . يتجرّع العذابات. .يتجرّع الشّـتات؟!

ألا يكفيك ذلك أيُّها السيّدُ الرئيس. .إن لم تكن طاغية؟!


في الأربعاء 20 فبراير-شباط 2013 05:21:57 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=19361