ضفاف ل نشوان العثماني.. قراءة في قصيدة النثر
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

ثار الجدل وتشعب الكلام بين النقاد والأكاديميين والشعراء أنفسهم حول ما يسمَّى مجازاً –وليس تعريفاً علمياً- (قصيدة النثر)، اذ لم يتفق الأكاديميون –حتى هذه اللحظة- على هذه التسمية ولم يزل الخلافُ قائماً ومحتدماً بين انصار هذا اللون الشعري-ان صح التعبير علمياً- خلاف ومعركة بين المؤيدين للنثر كقصيدة وبين المعارضين بشدة لذلك.. ومن النقاد والمهتمين والمتخصصين من يرفض (قصيدة النثر) جملةً وتفصيلاً وينفي ذلك من أصله وينكر هذا الشكل برمته.. يقول هذا الفريق -بما معناه- ان كان هذا الشكل (نثراً) فلماذا تسمونه شعراً؟ فهناك فرقٌ بين الشعر والنثر.. وذهب المعارضون والرافضون لقصيدة النثر الى القول ان الشعر هو ارقى صور البيان وليس شعراً مالم يكن عمودياً بوزن وقافية على بحور الخليل بن احمد وقال بعضهم ليست قصيدة النثر بشعر لأنها لا تحوي خصائص الشعر كالوزن والموسيقا وهي ليست حتى بشعرٍ حديثٍ فنقبله.. وفريق آخر من الأكاديميين والعلماء والنقاد والشعراء يرون ان النص البديع يفرض نفسه بصرف النظر عن الشكل، وهذا الفريق يتسامح كثيراً مع غياب الوزن والموسيقا والإيقاع ويبحث بدلاً من ذلك عن عالم الصور والأفكار والرؤى الفلسفية والنبضات الإنسانية والإمتاع الشاعري والخيال الواسع ويبحث عن مكونات النص البديع الممتع والمقنع للقارئ والمتذوق.. وعند هذا الفريق ليس المطلوب فهم معاني القصيدة حتى وان كانت قصيدة من بحور الخليل بل المطلوب تذوقها وان يسبح القارئ في فضاءات وخيالات جديدة وان لم يفهم المعنى وهذا هو –عندهم-تأثير النص المبدع.

وقطعاً للجدل والاحتراب بين الفريقين المؤيد والمعارض لقصيدة النثر -التي لم يتم تعريفها بشكل علمي جاد حتى هذه اللحظة- لاينبغي ان يكون (الشكل) هو محل الخلاف-كمايردد الدكتور عبد العزيز المقالح دائماً-ولا ينبغي ان يكون (الشكل)هو جوهر المسألة بل يُلتَفَت الى عناصر واقانيم ابداعية وجمالية سحرية في النص تستوقف القارئ وتسحره او تعجبه وتدهشه وان لم يفهم المعنى.. النص البديع يفرض نفس ويبرر لقراءته ولا يهم هنا (الشكل) مادام النص قد حقق اقانيم الجمال والإبداع والحضور الخيالي العميق..المطلوب –اذاً- منك ياشاعر (قصيدة النثر) او غيرها ان تقنع القارئ بجمالية ماتكتب، ومع ذلك فمحتوى (قصيدة النثر) يعكس ثقافة شعرية واسعة وأفكار فلسفية بعيدة المتناول، كما يعكس النص النثري ترسانةً ضخمة من اللغة وتناصاً انسانياً وحضارياً مع نصوص إنسانية وحضارات كثيرة، فليس شاعر قصيدة النثر مجرد شخص يكتب (خربشات) او شخص آخر مهووس بـ (الشكل) لمجرد الشكل ومن اجل الموضة والتقليد.. تعالوا نقرأ هذا البيت لشاعر:-

حُبيِّبي وا دَوم فوق عِلبة ** ثنتين كَسَبْ ترادعينْ وماتينْ

الدَّوم المقصود به ثمر شجرة السدر (البُعار) بلغة القرية، اما (الكَسَب) فهي الماعز(انثى الكباش).. ومعنى الشطر الاول للبيت: يا حبيبي او ياحبيبتي اشبهك ب(بعار) فوق العِلبة ومعنى الشطر الثاني احترب ماعزان ثم قتل كل منهما الأخرى.. ايها القارئ المتذوق هل ترى انسجاماً ام انفصاماً بين الشطر الأول والثاني للبيت ؟

يقول الدكتور والشاعر والناقد والأكاديمي عبد الحميد الحسامي :

".... أما ما يسمى بقصيدة النثر فهو موضوع آخر يجسد ما يسميه بعض النقاد بالمرحلة الثانية من مراحل الحداثة الشعرية العربية بعد مرحلة الأربعينيات المتجسدة بحداثة الشعر الحر إذ جاءت دعوات على يد أنسي الحاج وأدونيس وغيرهما من المتعصبين لفكرة قصيدة النثر ولا شك في أن قصيدة النثر التي ظهرت في فرنسا خصوصاً وكتبت عنها سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا كانت مدعاة لأن يتسابق هؤلاء في اقتباس مقولاتها والتبشير بها على أنها آرائهم الجديدة وقد كتب الشاعر العراقي سامي مهدي كتابه ( أفق الحداثة وحداثة النمط – قراءة في مجلة شعر ) وجلى فيه كل اقتباسات أدونيس وأرجعها إلى مصادرها الأساسية لدى سوزان برنار وأكد بالنصوص الواضحة والقطعية اختزال واختلاس أدونيس لهذه الآراء بمعنى أنها أي قصيدة النثر تنظيرياً وإبداعياً لم تكن نابعة من صميم الحاجة الإبداعية التي تقتضيها الذات العربية في تحولها المعاصر بل كانت مجتلبة من الآخر الغربي ونحن لا نعارض أن تكون هناك قصيدة بشكل من الأشكال لكننا نعارض إقحام أي شيء من خارج الذات ومحاولة فرضه قسراً على الذائقة العربية مدعوماً بتوجهات مراكز معينة ، إننا ندعو إلى أن يترك الإبداع نهراً يشق طريقه بنفسه كما شق طريقه في الأندلس وكتب الموشحات الأندلسية لحاجة إبداعية اقتضتها التحولات الذائقة ولم تفرض من خارجها ـ إن كثيرا من النقاد يرون أن قصيدة النثر لم تتخلق في صلب التجربة الإبداعية العربية ـ وأنها تشبه أطفال الأنابيب ، وهذا هو السر الذي جعل قصيدة النثر تتعثر منذ خمسين عاماً ولم تستطع أن تقوم على ساقيها"-- انتهى كلام الدكتور الحسامي.

موضوع دراستنا القصيدة النثرية بعنوان (ضفاف) للشاعر الشاب نشوان العثماني..الشاعر يكتب عالمه الجديد بمعانٍ جديدةٍ لا تشبه المعاني السائدة المألوفة العادية.. الشاعر ينشئ عالمه الجديد تحت ظلال الكرامة، الكرامة مصدر المعاني الجديدة، والشاعر هو من يصنع هذه المعاني لأنه يكتب ويفكر ويتخيل وليس هناك معجزات مادام الشاعر يكتب ومادام الاديب يفكر.

ضفاف لـ نشوان العثماني (النص)

المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه,

يؤرشفني مصيري لأجله:

الكرامة.

فـ «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»1

***

ثم أنني التَفِتُ يسارًا, فأجد غمامة ماطرة, وسحابة تكاد تلد, وترقصان,

وأسمع رعدًا يغني, وأرى برقًا يتسلق السماء,

وأقرأُ هذه اللوحة,

وماذا تعني؟

أتعلم؟

كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

***

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمة تسوّل المعجزات

عند ضفاف الأنهار المقدسة

بتهمة انتظار من لا يجيء أبداً,,»2

ودخلنا السجن, ودخل معنا فتيان,

وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة,

وأن نصنع مركب الانتظار,

***

وقرأتها من زمن, وكتبتُ,

وسافرت روحي, وهي تستغيث,

وهجرتني أحلامي,

ثم تركوني هنا, شتاتًا,

وأشلائي تشكوني, وتهجوني,

وحين لجأت إلى شاطئ القصيدة, ومحراب الصبر,

رأيتني أفترش سجاد الفضاء, ولم أصرخ, بل صرختُ؛

«اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنْبَتَتْ»3

***

رأيتني, وأنا على جانبي, يلتهمني الوجع,

وحفلتُ بي, وقاومتُ,

واحتشدتُ لأقرأ كتابًا عن المجريات,

كنت أقرأه في وجوه الناس,

وألمس شغفًا أن أنظر في أعينهم معنى الشيء الذي يكتبني, يؤرشفني: الكرامة,

***

سادتي, انتظروني عند حافة المدينة المقدسة, عند شاطئ النهرين, وانتظروني هناك عند السد العظيم,

لن يأتي, أعرف ذلك,

انتظروني وفقط,

اِنتظروني سأقوله لكم,

...

...

...

اَنتظروني,

وأتيتهم,

اقتاتوا العزيمة من مثواي الأخير,

ولا أدري ما صنعوا,

أثق بهم,

الأمنيات لو كنت معهم. سأصلي.

......................

1من «العهد الجديد».

2من قصيدة لـ «طاغور».

3من سورة «الحج».

 

الشاعر يكتب النص المقدَّس

قصيدة النثر الرائدة هي التي تعكس عبقرية في كل اشكال التناص مع الحضارات والافكار الانسانية، وهي قصيدة رائدة من وجهين، الأول حضورها الشاعري كعبارات وكلمات والفاض (شكل النص)، فالشعر اولاً واخيراً يُكتب ليُتذوق لاليُفهم. والحضور الفني للقصيدة هو مايأتي بجديد غير مألوف.. قرأ شاعرٌ قصيدةً امام ناقدٍ جاء في القصيدة عبارة :(وجنتي للشمس) فرد عليه الناقد :(حتى الكلب وجنته للشمس)..اما الوجه الثاني للقصيدة الرائدة فهو حضورها الفكري والفلسفي بعيد الغور مع حضورٍ للأبعاد النفسية الإنسانية والتاريخية..قراءة اكاديمية علمية للنص (ضفاف) يشير الى نجاح النص في الشكل والحضور الفكري واجتذاب الوجهين معاً. تعالوا نقرأ فاتحة النص :

المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه,

يؤرشفني مصيري لأجله:

الكرامة.

فـ «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»

*** 

موضوع القصيدة " الكرامة" والتي هي اخت الحرية. اول نقطة للحضور الريادي للنص هو ان الشاعر (او المتكلم داخل النص) لم يعد مجر متلقٍ للنصوص المقدسة بل صار هو نفسه يكتب "النص المقدًّس" وصار يستدرك اشياء عظيمة المعنى ربما لم تشملها النصوص المقدسة القديمة كـ (الكرامة) فهو الآن يكتبها:

  المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه

يرتقي الشاعر (او المتكلم اوالراوي) الى مراتب عليا في المعاني ربما كانت تبدو بعيدة المنال لا تُكتب الا في النصوص المقدسة، لكنه صار يكتبها لأنه اديب والاديب لايأتي الابماهو انسانيٌّ راقٍ ومقدسٍ وبهذا ينتقل الشاعر من موقع (المتلقي) الى موقع (المنشئ) للمعاني الجديدة. لااريد ان اتفلسف و(اعجن) ولكن اريد ان ابسط الكلام للقراء الأعزاء ومنهم شعراء ونقاد. هناك نظريات وفلسفات نقدية عالمية -غربية طبعاً- تقول ان النص المقدس او الكتاب المقدس –يقصدون الإنجيل- ماهو الاكتاب في الشعر والفكر والأدب لا اقل ولا اكثر، فهو كتاب ادبي يحوي كلام ادبي يشبه الشعر والنثر... ثم يقولون :(مادام هذا الانسان او الشاعر –خصوصاً- قادراً على قراءة تلك النصوص في الكتاب المقدس فهو بنفس القدر اقدر على محاكاتها اوكتابة مثلها واحسن قليل)، هكذا هم يقولون، يعني جهابذة النقد والفكر الغربي، ومثل هذا الكلام ظهر مع ظهور التيارات الرومانسية الشعرية في (انجلاند): من امثال الرواد وليام بيليك ووليام وردسورث وكلوريدج وغيرهم.. وهم يقولون ان الأديب او الشاعر او المنشئ للنص كائنٌ مقدسٌ بطبعه، يقبس من وحي الإله ومن بشارات النبي ولهذا هو يأتي ببشارات والهامات تشبه ماهو مكتوب في الكتاب المقدَّس.. يكاد هذا الكلام ينطبق على قراءتنا للسطور فاتحة النص " ضفاف" فـ موقع المتكلم في النص لم يعد مجرد متلقٍ بل صار هو مصدر المعاني المقدسة والأجل قدسية كـ الكرامة... ثم تعالوا نتأمل عبارة :

«ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»

هذه العبارة وردت فيما يسمى بالعهد الجديد (نيوتستامينت) الكتاب المقدس عند النصارى.. الا تشبه هذه العبارة سطراً شعرياً يمكن ان يكتبه شاعر؟؟ اليس النص المقدس «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» من قبيل الشعر؟ ويمكن ان يقوله شاعرٌ .. دعوني اضرب لكم مثلاً آخراً.. رجلٌ مفكرٌ غربيٌ نصرانيٌ لا يعرف العربية ولم يقرأ القرآن الكريم قال ذات مرة كلاماً فيما معناه :(لا يوجد رجلٌ محايدٌ في هذا العالم، ان المحايدين في اسفل قعر في جهنم).. الايشبه هذا الكلام قوله تعالى :(ان المنافقينَ في الدركِ الأسفلِ من النار)؟ كيف اهتدى هذا المفكر الى هذا المعنى المقدَّس ؟!! تعالوا نضرب مثلاٌ آخر من تراثنا الاسلامي (السلفي) حين يقال :(كان الحسن البصري رضي الله عنه يشبه كلامه كلام الأنبياء).. ما معنى هذا؟ بل وان الخليفة هارون الرشيد كان يزين مقدمة رسائله لعماله وللأمراء والملوك اما بآية قرآنية او بكلام من كلام الحسن البصري.. ما معنى هذا الكلام؟ يقول الغربيون من ارباب مدارس النقد والشعر ان للشاعر قلب نبي فهو ملهمٌ ويأتي دائماً بالمقدًّس. وهكذا فليس بمعجز ان نقرأ في النص معانٍ تشبه المعاني المقدسة فهي درجة عليا من الإلهام لكنها ليست مستحيلة على شاعرٍ يحمل بين جنبيه قلب نبي.. الفكرة العامة للقصيدة هي " الكرامة" وموضوع القصيدة يتحدث عن رجالٍ او شبابٍ او شهداء صنعوا الكرامة وارتقوا بتضحياتهم هذه الى مصاف العظماء والفلاسفة، غير ان الذي يهم القارئ او المتذوق الناقد للنص المنثور كيف تم تركيب النص(الشكل) لمواكبة المعاني بعيدة المنال(المضمون او الفكرة).. شاعرنا الشاب في هذا النص النثري فيلسوف يجيد-من غير قصد او تخطيط مسبق-فن التناص مع الفلاسفة كـ فيلسوف الهند طاغور ومع نصوص مقدسة (العهد الجديد) ثم يتفيأ بتلقائية سهلة ظلال النص القرآني (سورة الحج-و سورة يوسف) كما هو مبين في هامش القصيدة، يفعل كل ذلك بتلقائية شاعرية محلقة تخلق النص وتكتب النص بنص آخر، كل ذلك يتم بشاعرية سهلة وغير مقصودة والا فليس شاعراً من يخطط بقصد ويتكلف بإقحام مقيت وغير موفق.. ومع ذلك ليس هذا موضوع هذه الحلقة بل موضوعها معجزة خلق النص من تحليقات قد تبدو سهلة في ظاهرها لكنها تمتنع على شعراء النص الموزون المقفَّى او النص بالموسيقا والايقاع، لأن عبقرية كتابة قصيدة النثر تعتمد على الإيحاء البعيد والربط للمعاني بلغة راقية الخيال بعيدة المنال سهلة الإعجاز لدى الناثر الشاعر فحسب، اقرأ هنا مثلاً

ثم أنني التَفِتُ يسارًا، فأجد غمامة ماطرة، وسحابة تكاد تلد، وترقصان

وأسمع رعدًا يغني، وأرى برقًا يتسلق السماء

وأقرأُ هذه اللوحة

وماذا تعني؟

أتعلم؟

كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى

من لا يعشق قصيدة النثر او يتذوقها غير صادق كثيراً-من وجهة نظري-في حبه وعشقه لقصيدة العمود او ما يسمى بالشعر ذي الموسيقا والايقاع، انظر كيف يرسم الشاعر او (يخلق) لوحة امل صنعها صناع الكرامة بريشة الشاعر: (غمامة ماطرة- سحابة تكاد تلد- ترقصان-واسمع رعداً .. الى آخر) كما في المقطع اعلاه، ايحاء جميل يصنع لوحة متناثرة للأمل عناصرها السحابة والغيمة والرعد.. الى آخره، تعال الآن نجمع هذه العناصر وماذا تعني يرد عليك النص: (كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى)، شباب التغيير لايلتفتون الى ناحية اخرى فهم صناع الأمل والغد المشرق بأنفسهم، المهم هنا اللوحة التي رسمها الشاعر في الشكل المنثور للقصيدة، والمهم هذه الصور التي تشترك في مكونات لوحة الامل والتغيير، الخلق والابداع في النص معجزة وبراءة اختراع للشاعر المعجِز، نحن نستطيع صنع اشياء كثيرة لكن يعجزنا هندسة النص اليس كذلك؟ ومع ذلك فهي هندسة غير مخطط لها وغير مقصودة يعرف الشاعر ماذا يقول بلا تكلف ويعرف متى يتناص مع نصوص كونية او مقدسة من حيث لا يقصد فهذا كلام يشبه المعجزات بل من المعجزات:

نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمة تسوّل المعجزات

عند ضفاف الأنهار المقدسة

بتهمة انتظار من لا يجيء أبداً,,»2

ودخلنا السجن, ودخل معنا فتيان وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة

وأن نصنع مركب الانتظار

كما قلتُ سابقاً لا اريد ان ابدو متكلفاً ومتفلسفاً في هذه القراءة، دعونا نجعل الأمور سهلة وبسيطة وشاعرية، الشاعر يصنع النص، يلعب بالكلمات،يصنع لوحات وهذه هي المعجزة والتي تماثلها معجزة الشباب في صناعة التغيير، معجزتان في النص المنثور، معجزة ثورة الكرامة ومعجزة كتابة هذا النص وتضاف اليهما معجزة هذا التناص مع (الفتيان في السجن)، تسافر قصيدة النثر الى عهد يوسف عليه السلام لأن تهمة سيدنا يوسف لها علاقة بتهمة انظمة السجون العربية التي تريد مصادرة حتى احلام ورؤى الناس ومنهم الشباب طبعاً، غير ان للأحلام الشبابية ضفافها وانهارها المتدفقة التي تتمرد على سجون الجفاف والقحط والجدب، ياسيدنا يوسف تنتصر الاحلام ويتمرد السجين على سجانه لأنه من صناع الكرامة وله رفاق درب على ضفاف انهار الحرية.. سوف احاول ان اقف على امثلة للنص المعجٍز في ابداعيته في اشكال التناص والتناغم الكوني والفكري، سنقرأ هذا المثال مرة أخرى:

ثم أنني التَفِتُ يسارًا, فأجد غمامة ماطرة, وسحابة تكاد تلد, وترقصان,

وأسمع رعدًا يغني, وأرى برقًا يتسلق السماء,

وأقرأُ هذه اللوحة,

وماذا تعني؟

أتعلم؟

كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

من التناص غير المتكلف ولا المقصود بتخطيط منظّم السحاب والغمام المحملة بالماء وهذا ورد كثيراً في الشَّعر العربي مثل الشطر الشعري (ان السماءَ تُرجَّى حين تحتجبُ) للمتنبي او لأبي تمَّام-لا اذكر- اقتبسها بعد ذلك الشاعر عبد الله البردوني:

الا ترى يا اباتمام بارقنا..." ان السماء تُرجَّى حين تحتجبُ"

السحاب السوداء المحملة بالمطر بارقة امل للغيث وللنصر والتغيير، وسطر شعري آخر يستحق لفتة في شكل ومعنى التناص(الاقتباس):

  كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

تناص شاعري مع سيد قطب في قصيدة "لحن الخلود":

ولاتلتفت هاهنا او هنا ... ولا تتطلع لغير السماء

جيل التغيير لا يلتفت الى الوراء ولا يتطلع لغير السماء، شاعرية سيد قطب مع شاعرية النص-موضوع الدراسة-من سمات العبقرية الشعرية ولهذا صارت هذه النصوص خالدة ومسجلة في الذاكرة الفطرية والكونية عبر الدهور هذا هو لحن الخلود اذاً. ونقرأ في النص:

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمة تسوّل المعجزات

عند ضفاف الأنهار المقدسة

بتهمة انتظار من لا يجيء أبداً,,»2

الشاعرهنا يتلقى مباشرةً ينابيع الحكمة من فيلسوف وشاعر الهند الاعظم طاغور (قال لي طاغور.....الخ)، عبقرية خلق النص معجزة لا يقدر عليها الا الفلاسفة الشعراء الذين (يلعبون برموز الوهم)، صناعة وهندسة وخلق النص على ضفاف الانهار المقدسة هو موضوع قصيدة "ضفاف" ومن هنا قلنا ان النص الذي بين ايدينا معجِز كالنص الخالد لـ سيد قطب وطاغور تماماً ولكن من يقرأ؟ يبحث الشاعر هنا عن القارئ الفيلسوف الذي يعرف قواعد اللعب برموز الوهم التي تصنع في النهاية اعجازاً في الخلق الشِّعري واعجازاً في التغيير على ارض الواقع-صناعة معركة الكرامة.

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

وطبقاً لقصيدة سيد قطب ("لحن الخلود"- اخي يا مقيمٌ ورا السدود... اخي انت حرٌ بتلك القيود) وقصيدة جبران (اعطني الناي وغنِّ فالغناء سر الوجود.. وانين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود) –يقصد بالغناء الشعر-فالنص لايفنى عندما يفنى الوجود والنص لايفنى بعد تحقيق النصر في معركة الكرامة او حتى عند الفشل في ذلك، يرحل الجميع ويبقى النص والشاعر ، هكذا قال طاغور وهكذا هي معجزة النص وهذا هو سر الخلود.. ومن المعجٍز اللعب بحبات الدموع في وجه اعداء النص واعداء الغناء واعداء الحرية لصناعة صبحٍ جديدٍ باسمٍ، ليس يحسن هذا اللعب غير الشاعر، تعالوا نعش هذا البيت من رائعة جبران خليل جبران

هل تحممتَ بعطرٍ وتنشفتَ بنور... وشربتَ الفجر خمراً في كؤوسٍ من اثير

سطر شعري خالد ومثال للشعر الرومانسي الجميل عبر العصور،الشاعر يحسن اللعب بحبات الدموع تارةً (طاغور) وحبات الأثير تارةً اخرى(جبران)، الشاعر المُعجِز هو من يخلق النص خلقاً بديعاً يبقى حتى بعد الفناء، "فطوبى لنا في ديار الخلود، من قصيدة سيد قطب المشار اليها. تعا لوا مرة اخرى الى شاطئ النص "ضفاف":

وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة,

وأن نصنع مركب الانتظار,

الرفاق يصنعون مركب الانتظار، يذكرنا الشاعر هنا بـ صلاح عبد الصبور احد ابرز رواد القصيدة الحديثة قال:

صنعتُ مركباً من المداد والورقْ

ربانُه اشهر من قاد سفيناً في خضمْ

وفوق قمة السفين يخفق العَلَمْ

حفظنا هذه القصيدة في مقرر النصوص الادبية لصف ثالث ثانوي-القسم الادبي،صلاح عبد الصبور ونشوان العثماني في تناص فكري وشعوري ولا يهمني من بدأ اولاً كتابة النص لأنني واثقٌ ان نشوان لم يطلع على قصيدة صلاح عبد الصبور حين كتب النص، انهار الشعر المقدسة تصب في مصب انساني وفلسفي وكوني واحد، مركباً من الورق يتحول الى مركبٍ من مراكب التغيير على ارض الواقع يصل بين الوهم والحقيقة هذا النص المُعجِز، الم اقل ان صاحب قصيدة "ضفاف" شاعر معجِز يعرف اسرار هندسة النص؟ كل هذه (الدَّوشة) في افكار ومعاني القصيدة ليس " الكرامة" بل كيف تكتب نصاً خالداً يلتقي مع نصوص كونية لرفاق من انهار مقدسة مختلفة (الهند-مصر-لبنان-اليمن)مثلاً.. التحدي هنا ليس كيف ينتصر رفاق التغيير في معركة الكرامة ولكن كيف نكتب نصاً خالداً باقياً.. المعجزة الحقيقية ان يصنع الشاعر "مركباً من المداد والورق" (مركب الانتظار) لأن الشعراء لاوظيفة لهم غير الانتظار عند ضفاف الأنهار المقدسة، انهار الحضارات الإنسانية تلتقي كلها وتصب في مصبٍّ واحدٍ لمصلحة الإنسان والإنسانية، تسافر ارواح الشعراء الى فضاءاتٍ بلاحدود وتسافر معهم احلامهم.. القصيدة هي العزاء الوحيد للشاعر تواسيه حين يلوذ الى محرابها يستلهم منها المزيد من الصبر حتى تتحقق الأحلام، وللشعراء احلام واحدة وهي ان يسود السلام العالم كله وان تتحقق احلام الإنسانية كلها.. الأهم هنا ان "الرفاق الأربعة" يواصلون رحلتهم نحو الشعر،ينتظر بعضهم بعضاً عند حافة المدينة المقدسة،عند شاطئ النهرين.. انها مواضع رومانسية ومقرات سرمدية للشعراء يسافرون اليها حين تهجرهم احلامهم على ارض الواقع.. في الأخير ليس بالضرورة ان تتحقق احلام الشعراء على ارض الواقع ولكنهم سوف يظلون يسافرون ويسافرون ويحلمون ويرسمون مدنهم المقدسة عند شاطئ النهرين.. ويصح القول ان القصيدة هي الإنجاز الإنساني الجميل بكل معانيه العالمية الإنسانية يلتقي عندها الشعراء من كل الأنهار المقدسة والشلالات الإنسانية وهذا يكفي عندهم ليحققوا احلامهم فماداموا يكتبون فأحلامهم في ازدهار ويصنعون مركب الانتظار كوسيلة امل للإنسانية حتى يتحقق الوعد (يقتاتون العزيمة من مثواي الأخير) النص الخالد والقصيدة الخالدة قوت الأحلام لتحقيق الأمنيات..الإعجاز والعبقرية في النص (موضوع الدراسة) هو كيف تكتب نصاً باقياً خالداً للحلم الإنساني عبر الأزمان حتى يغدو هذا الهدف مؤتمراً انسانياً للشعراء كل يوم عند ضفاف الأنهار المقدسة، انهار العطاء الإنساني السرمدي، الإعجاز في النص هذا الشاعر الفيلسوف الذي لم يسأم الانتظار وسيظل يصنع مراكب الانتظار الى مالانهاية وهذه هي وظيفة الشاعر:

وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة,

وأن نصنع مركب الانتظار,

***

وقرأتها من زمن, وكتبتُ,

وسافرت روحي, وهي تستغيث,

وهجرتني أحلامي,

ثم تركوني هنا, شتاتًا,

وأشلائي تشكوني, وتهجوني,

وحين لجأت إلى شاطئ القصيدة, ومحراب الصبر,

رأيتني أفترش سجاد الفضاء, ولم أصرخ, بل صرختُ؛

«اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنْبَتَتْ»3

***

رأيتني, وأنا على جانبي, يلتهمني الوجع,

وحفلتُ بي, وقاومتُ,

واحتشدتُ لأقرأ كتابًا عن المجريات,

كنت أقرأه في وجوه الناس,

وألمس شغفًا أن أنظر في أعينهم معنى الشيء الذي يكتبني, يؤرشفني: الكرامة,

***

سادتي, انتظروني عند حافة المدينة المقدسة, عند شاطئ النهرين, وانتظروني هناك عند السد العظيم,

لن يأتي, أعرف ذلك,

انتظروني وفقط,

اِنتظروني سأقوله لكم,

...

...

...

اَنتظروني,

وأتيتهم,

اقتاتوا العزيمة من مثواي الأخير,

ولا أدري ما صنعوا,

أثق بهم,

الأمنيات لو كنت معهم. سأصلي.

..................................

شاعر وناقد يمني


في السبت 14 إبريل-نيسان 2012 04:50:12 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=15087