أكان ذلك ذات صيف..؟
غادة البخيتي
غادة البخيتي

حينها كنت يسروعا صغيرا...لم تدرك يوما حقيقة من تكون...وما يمكن أن تكون عليه ذات حلم وذات يوم...

كنت يسروعا زاحفا لا يرى من عالمه السفلي السماء إلا سقفا بعيــــــــــــــــدا ,,,بعيــــــــــــــــدا جـــــــــــدا...

تحدق في الفراشات الجميلة وهي تطير مع بعضها في حب وسعادة....وتعود ساخطا على قدرك ونفسك لتزحف مختبئا تحت الأوراق الصفراء المتساقطة...لا تعرف من الحياة سوى شحوب هذه الأوراق العتيقة دفئا و مأوى ولا تتأمل إلا نسيجها المهتريء فوق رأسك وكأنها كل ما حواه الكون من إبداع...!!؟؟

إلى أن..لمحت تلك الفراشة على مقربة منك..

كانت تطير من زهرة لأخرى...حين رايتها والتفتت إليك...

بقيت تتأملك..وحدث ذلك الوميض الذي لا يمكن تعريفه أو تفسيره...أحببت الفراشة...

وأصبحت بهجة حياتك أن تراها وتتحدث إليها...

لكن.... ما أن تبدأ بالحديث عن البراري الشاسعة والمساحات المزهرة التي تتجول فيها بحرية والسماء التي تحلق فيها عاليا...حتى ينتابك حزن كبير وتغرق في صمتك هروبا من ألم الحلم بما لست قادرا على الوصول إليه... كنت عاجزا خائفا حتى من مجرد فكرة تخيل ما تحدثك عنه ببساطة لأنك لم تره ...كنت تراه حلما مستحيلا...فعلام كل هذا العناء ...؟؟!

لماذا توقظ فراشتك كل هذه الأحلام الجميلة المؤلمة داخلك..التي لم تكن تملك حتى شجاعة مواجهتها...!.كنت يسروعا فحسب...!!

باغتتك الفراشة يوما:" لما لا تأتي معي سأريك أشياء جميلة جدا ..سآخذك إلى مدينة السعادة...ستشعر بلذة لا تضاهى....."

لكنها ما إن رأت صمتك وحزنك..حتى أكملت..صدقني أنت قادر على التحليق...أنا أراك كذلك ,,ما أنت عليه الآن ليس إلا حالة مؤقتة ..إنها مرحلة لن تدوم طويلا....صدقني ..اتخذ قرارك فحسب وسترى ما سيصبح الأمر عليه...

كان كلامها مؤلما...كم هي طيبة هذه الفراشة الجميلة..

تبتسم لها..شكرا لك يمكنك الرحيل عزيزتي..لست بحاجة للبقاء هنا مقيدة إلى يسروع مثلي حبل قدره مربوط للأرض ومنذور للزحف على خطى من سبقوه من أسلافه...

لكنها هتفت معترضة...ليس هذا قدر اليسروع...أنت فراشة..مثلي تماما..صدقني الأمور ليست كما تبدو عليه في الظاهر إطلاقا...آمن فقط انك فراشة ...تحمل رحلة التحول وستصل..لأنك خلقت وبداخلك كل ما تحتاجه لتحلق في سماء حلمك...

لكنك لا تدعها تكمل, تنكس رأسك بيأس وتزحف بعيدا عنها منهزما حزينا....تحدث نفسك: "لا يمكنني ادعاء ما ليس موجودا...لا يمكنني معارضة الطبيعة التي أوجدتني هكذا...ظروف الحياة حولي قاسية جـــــــــــــــــدا ..لا يمكنني التغلب عليها..فقط يمكنني التكيف معها فحسب...أن أتعلم كيف احمي نفسي من أن يجرفني سيل الأمطار...أو تدوسني أقدام المخلوقات الأكبر مني...أنا لا اطمح للحياة...كل ما اطمح إليه هو العيش فقط..أعلى سقف لدي هو الأوراق الصفراء التي تحميني حر الشمس الحارقة..وبدوري لا يمكنني تركها لقد الفتها...إنها بيتي و مأواي...

كيف لفراشة أن تفهم حجم معاناة يسروع مثلي....؟

كيف لفراشة مضيئة...أن تطلب إلى يسروع مغلوب على أمره أن يحلم بالسماء والطيران...؟؟

تلحق الفراشة بك لكنك تردها بحزن...لا تسخري مني...أحببتك.. لكن اعرف أن مصيرنا هو الفراق...

بكت الفراشة حتى ابتل جناحاها..حاولت إقناعك انك فراشة وانك تحتاج فقط لبعض الوقت والكثير من الشجاعة.. لتصبح كذلك..

لكنك بقيت تزحف مبتعدا عنها...وهبت رياح باردة..لتهطل أوراق الخريف وتخفي اليسروع أسفل منها..

..........

وبعد حين في الشتاء...أعاد الحنين الفراشة إلى الغابة لتبحث عن صديقها اليسروع...فلم تجده..

حلقت طويلا حتى قادها حدسها إلى ومضة نور تنبض من شجرة...كانت شرنقة معلقة إلى جذع الشجرة..تتمايل مع هبات الريح..

سرت في جسدها رجفة باردة... انه هو...انسابت دموعها بصمت ..لا بد انه يشعر بوحدة قاتلة وببرد شديد داخل هذا الغطاء المعتم..

بقيت تتأمله ماذا عساها تفعل لتقيه البرد والوحدة ...تذكرت كيف تركها هاربا يائسا محتميا منها ومن أحلامه بأوراق الخريف البائسة...وهاهو الآن قد هرب إلى هذه الشرنقة...لكنها معتمة وكئيبة...ويبدوا انه سيطيل المكوث فيها بسبب يأسه ومخاوفه...ياله من أحمق هارب...

قطع حبل أفكارها صوت يناديها قرب الشجرة...التفتت إليه كان الجندب الحكيم...

"أنت يا فراشة.....

طارت وحطت بقربه..وابتسمت.." مرحبا أيها الحكيم...

أكمل " لا داعي للحزن انه يجتاز رحلته نحو حقيقته...أنت تعلمين ذلك جيدا...ففي يوم ما ليس بالبعيد كنت مثله...وها أنت ذا فراشة..حري بك أن تصبري و تثقي بان مصير اليسروع أن يصبح فراشة لا محالة...

اعلم أنها رحلة قاسية...البرد..الوحدة ..الصراع ما بين مخاوف التحول و قناعاته باستحالة تحليقه معك...التحول ليس سهلا ,,,

"انه قرار.."

قرار بالمخاطرة ليصبح فراشة أو البقاء يسروعا كما هو...

وأنت اخترت ذات يوم واجتزت المخاطرة بشجاعة وها أنت ذا فراشة....

انظري إليه..أترينه اقل شجاعة وجرأة منك...؟

لا تستعجلي فالمحبة التي أشعلتها داخله ستبقيه حيا والنور الذي يحمل داخله سيهديه إليك والى بوابة السماء...الربيع قادم ستحلقان معا بين أزهاره...ثقي بذلك..

انه كمون مؤقت..وأنت خير من يعلم ذلك...لكنك ربما لا تدركين أن بعض الشرنقات لا ينتهي بها الحال إلى فراشات...إذا أطالت المكوث داخل عتمتها تصارع رغباتها القوية وقرارها بالتحول إلى فراشة...فربما بقت هناك إلى الأبد وانتهى بها الأمر إلى التحجر و.."

ارتجفت الفراشة لمجرد تخيل الفكرة...يا الهي.. انه لأمر بشع ....ضمت جناحيها اتقاء للبرد...ورفعت عيناها نحو السماء..كانت هناك نجمتان تلمعان بنور المحبة رغم برد الشتاء القارس..ثم عادت لتنظر إلى حبيبها المختبئ داخل خيوط شرنقته الكئيبة...يصارع نفسه ويصارع البرد القاتل...

لمحت توهج نور خافت ينبعث من داخل الشرنقة رغم عتمتها..التفتت إلى الجندب..بدا صامتا مستغرقا في تأمل السماء..لا يبدو انه قد لمح النور الذي رأته ...

أعادت نظرها إلى السماء ..سرت فيها طمأنينة اضاءت جسدها الرقيق بأكمله..وهمست في سرها.."حقا النجوم مضيئة لكنها تبقى ثابتة لا تبرح مكانها...أما فراشات النور فهي تحلق دوما لتضيء سماء الحقيقة..التي يحسبها الآخرون حلما مستحيلا...

حتما ..انه لأمر جميل أن تكون فراشة للنور..رغم قسوة ما تمر به في رحلتها...إلا أنها تنتهي فراشة مضيئة...لها كل السماء لتحيا..وشذى الأزهار...لها كل النور وينبعث منها كل الأمل والجمال...

لو أن اليسروع يدرك ذلك..لو انه يغادر شرنقته فقط...لأصبح فراشة جميلة تنير دروبا أخرى...!

ونفضت جناحيها لتحلق...وهتف بها الجندب" إلى أين ..؟ البرد قارس.."

"لا باس..في التحليق عاليا كل الدفء وكل المتعة... لا يمكن لفراشة أن تبقى على الأرض طويلا..في السماء متسع كبير لي..

أراك لاحقا أيها الحكيم...".


في الجمعة 30 مارس - آذار 2012 11:16:48 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=14856