حوار بين كلب الشارع و ... كلب السلطة
محمد عبد المجيد

مأرب برس - أوسلو - محمد عبد المجيد- خاص

التقى كلبان على قارعة طريق خالية من المارة، فتنابحا، ثم تفرّسَ كل منهما في الآخر كأنهما من عالمين مختلفيّن.

كان الأول سمينا وتبدو عليه علائمُ الدلال والرفاهية والتخمة، فهو كلب السلطة، أما الثاني ففيه فقر لمتشردين، تُغطيه أسمالٌ رثة من أوساخ الشارع فهو منه وإليه.

ودار بينهما حوار التقطنا شطرا منه...

قال كلب السلطة: ما الذي جاء بك إلى هذه المنطقة النظيفة، وإني لأظنك أخطأت الطريق إلى فضلات سكان عشش الصفيح فقادتك قدماك إلينا؟

كلب الشارع: أراك تتحدث كسَيّدِك ووليّ نِعْمتك الذي يُطعمك، ويُسَمّنك، ويحيل نباحك إلى تجرؤ وقح على وفاء عالم الكلاب
!

لقد جئتُ هنا لأن كل شارع هو داري، وكل زاوية هي مرصدي، أطارد القطط كما يحلو لي، وأمارس حريتي في التنقل دون عصا سَيّد أو شراسة أبنائه.

كلب السلطة: أظن الفقرَ قد جعل منك فيلسوفاً، والأوساخَ التي عَلَقَتْ بك أنستك أن كلابنا المدللة تنفر منك، فنحن نغتسل بماء الخرطوم الذي يُمتعنا به سائق السيد وهو يغسل السيارة السوداء الفارهة التي لا أحسب أنها مرت في شوارعكم القذرة الضيقة التي يتنافس فيها الناس والكلاب والقطط على صندوق قمامة.

كلب الشارع: وأنا أظن أن أسيادك يدللونك كما يفعل الأطفال مع خروف العيد قبل ذبحه.

أنت تهزّ ذيلك عندما يضربك سيدك، وأنا أهزه فرحا عندما يربت طفل فقير فوق ظهري.

أنت لا تشم رائحةَ اللصوص فهي مثل رائحة سيدك، وأنا أطاردهم ولو كانوا يرتدون أفخر الثياب وتدوس أقدامهم على الأرض كأنهم ليسوا منها.

أنت تجلس هادئا بجوار سيدك وهو يعقد صفقات الشياطين مع ضيوفه، وتمر أصابعه في شعرك الكثيف النظيف فتصمت، ثم يأخذك نعاس المتخمين، أما أنا فأبحث عن لقمة عيشي، وأقفز فرحا إن عثرت على عظمة ألقاها فقير بعد أن مسح لسانُه بقايا ما كان فيها من لحم قليل.

أنت جبان ترجع خطوة للوراء إن لوّح أحد أمامك بقبضته، أما أنا فأتقدم خطوتين مواجها خصمي ولو كان يمسك عصا غليظة

كلب السلطة: وأنت تعيش وتموت دون أن تسير على بساط، أو تنام في فراش وثير، أو تلهث بجوار سيد يمارس رياضة الجري في أحد النوادي التي صنعها أثرياء العصر ليشاهد بعضهم بعضا، ويعقدون صفقات الأسياد.

كلب الشارع: بل أنت حارس للصوص الوطن، وناعم كأنك وُلِدت قَطة تَحَوّلتْ إلى كلب. أراك أحيانا داخل أسوار القصر وابنة سيدك تلقي بكرة اليد بعيدا فتسرع لتأتيها بها دون أية متعة أو سعادة.

أنت لم تعد رمزا للوفاء، لكنك تمثل الخنوع والخضوع وهزّ الذيل لمن يُلقي إليك ببقايا مائدة تحلّق حولها ضيوفُ لص القصر احتفالا بخضوعهم هم أيضا.

أنت كائن حَيّ هَرَبتْ منه روحُه، أما أنا فكلب حر طليق أنام في أي مكان، وأتدثر بسماء صافية أو ممطرة، ولا تخيفني وقع أقدام أشرس اللصوص وهو ينهب الأرض عائدا من سهرة، أوثملا ضل طريقه إلى موقف سيارته.

كلب السلطة: أما أنا فأعرف الحرير والطعام الشهي، ويربطني سيدي بسلسلة من فضة تتدلى منها قطعة معدنية مكتوب عليها اسمي وعنواني.

إن غبتُ دقائقَ عن عيون سيدي بحث عني في كل مكان حتى آتيه طوعاً أو كرهاً، أما أنت فحَسْبُك قمامة تلقيها سيدة من نافذة بيتها فتظنَ نفسَك قد ملكت الدنيا وما فيها.

كلب الشارع: ما تراه أنت حياة مُنَعّمة، أراها أنا قبحا ودمامة وصمتاً على السرقة وقيودا في رقبتك ولو كنت تجري في أرض خضراء استولى عليها سيدك من أفواه من يطعمونني في عشش الصفيح حتى لو كان طعامهم إياي لا يشبع فأرا مشردا أو بُلبلا وقف غير بعيد يُغرد للفقراء فلا تعرف إن كان يَسْعَد برؤيتهم أم يؤكد لهم أن حريته من حريتهم.

كلب السلطة: فلسفة الفقر لا تخدعني، ومنطق العوزّ لا ينطلي علي، وتبريرات الطبقة الدنيا من كلابنا لا تجعلني أفَضّل حريتَك المزعومة على قيودي الواقعية.

نعم، لقد أصبح نباحي خفيضا لا يسمعه لص، ولا يخشاه قاتل، ولا يزعج كُلَّ سكان القصر وضيوفَهم الأكارم.

إن سيدتي تأخذني على حِجْرِها الناعم، وتمر أناملها الرقيقة فوق ظهري، وتأمر السائقَ أن يتوجه سريعا لطبيب بيطري.

صحيح أننا ندخل عيادته فلا يعرف للوهلة الأولى مَنْ منّا الكلب، لكنه في النهاية ينحني لسيدتي، ويؤكد لها أن الأمر ليس خطيراً، وأن شهيتي للطعام التي خفتت ستعود مرة أخرى، ثم يقول لها: كلبُك ياسيدتي هو سيدنا،نحمله فوق رؤوسنا!

كلب الشارع: لعل وقتك الذي تقضيه نائما في حديقة القصر لا يسمح لك بتأمل الهدف من الحياة، وربما لا تعرف الفارق بينك وبين كلاب أخرى تسير على قدمين، تستعذب مهانة سيدك لها، وأحيانا تحمل فوق أكتافها نجوما، وعلى صدورها نياشين لامعة أوّسَمَها إياها سيّدُ القصر بعد أن نافستك في مطاردة مناهضيه في الشوارع وهم الذين تظاهروا طلبا لحريتهم المشروعة، فنهشتَ أنت وكلاب الزعيم أجسادهم الغضة البريئة.

أزعم أنك لم تسمع بقصيدة المأمون أبي شوشة وهو يقول:

مولاي لا تعبأ بهم

لا تكترث

كلاب

يصغر عقلهم عما تبغي من الأحلاف

في قصرك المعمور بالخيرات يا ملكي كلاب

ثم ينهي قصيدته قائلا:

أو ليس شعبك أو كلابك كلهم مُلْكا حلال؟

كلب السلطة: تُضحكني فلسفتك في تبرير فقرك، وتبهجني متعتُك في لعق الأوساخ التي علقت بجسدك، ويروق لي بحثك عن طعام تتجشأه بطون أولاد أسيادي المرفهين.

اقرأ ما شاء لك وقتك في الفلسفة وحقوق الكلاب وأهمية الوفاء، أما أنا فأطيع ما أمرني سيدي وتاج رأسي، فيرسلني أحيانا إلى السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة لعلي أغرس أنيابي في أجساد المتمردين على أسياد البلد.

إنني لست بهذه النعومة التي تخدعك، فأنا أنافس كل رجال الزعيم في الشراسة والاعتداء على الناس ومطاردة الأبرياء وترك اللصوص يمرون أمامي مطمئنين كأن حاسة الشم قد انتزع منها سيدي ما يدلها على لصوص الوطن.

كلب الشارع: أما أنا فأرفض أن أتساوى بكلاب سيدك التي تحمل نياشينها ونجومها ، وتمشي في الأرض تبغي خرْقَها.

إنني أعلم أن هناك كلاباً تحمل الحصانة البرلمانية، أو تحمل حقيبة وزارية، أو تتولى أعلى المناصب في أحزاب وتجمعات تنام في فراش سيد القصر.

أصدقاؤك، ايها المدلل الذي خرج عن وفائنا الفطري، يمتصون دماء الأبرياء في المستشفيات الاستثمارية، وينتزعون اللقمة من أفواه الفقراء، ويُسَمّمون الطعام للغلابة والمساكين، وينهبون وطنهم بأوامر من سيدك.

أصدقاؤك، أيها المتعالي المتغطرس الذي تتبرأ منه كلاب الوفاء لا يحتاجون إلى كلب حراسة يحميهم، لكنهم في حاجة إلى الكلاب التي تقود العميان في شوارع المدن الحزينة المليئة تلوثا وغباراً وعوادم السيارات.

أصدقاؤك من كلاب النهب والهبر والسرقة والاختلاس والتزوير والنفاق والتزلف والتهريب والمخدرات ومافيا الاحتكار للمستهلك المسكين أشد خطرا على الوطن من كل الكلاب الضالة والشرسة التي تغرس أنيابها في ضحاياها.

أصدقاؤك الذين ربّاهم سيد القصر ومنحهم مفاتيح خزائن الوطن هربت منهم أرواحهم وحلت محلها أرواح شياطين تخجل الأرض مِنْ حَمْلهم، وسيتضاعف خجلُها عندما يعودون إليها عظاماً رميماً يشتهيه دود الأرض.

كلب السلطة: أراك تودي بنفسك إلى التهلكة، وتُعِد ظهرَك لعبيد سيدي يلهبونه، وتظن أنك مدافع عن قيم الخير في عالم الكلاب فتُناهضنا، وتُخاصمنا، وتُعارضنا، وتُحَرّض علينا هذه الحثالةَ المتمردةَ من فقراء الشوارع. إننا نعيش في كَنَفِ سيدنا وزعيمنا المبجل، ونطيعه ما أمَرَنا، ونضرب ممثلي العدالة بالأحذية، ويغتصب عبيدُ سيدنا بمرشديهم ومخبريهم في تخشيبات الشرطة وأقبية السجون كلَّ الشرفاء والأحرار والوطنيين.

أنتم نجس كما يؤمن بذلك سيدنا وتاج رؤوسنا وزعيمنا، ولدينا توجيهات منه أن نغرز بكل العنف والقسوة والوحشية أنيابنا في لحوم أبناء البلد، بل إنه أَمَرَ أصدقائي الكلابَ الذين يرتدون يونيفورماً أبيضاً في الصيف وأسوداً في الشتاء أن يغتصبوا هؤلاء الغوغاءَ الذين يحلمون بزعيم آخر، ويحتقرون طلعة سيدي البهية، ويبحثون عن الخلاص في غيره.

كلب الشارع: أصدقاؤك أكثر شَرّاً من كل مجرمي العالم. إنهم لا يملكون ضميرا، ولا يعرفون وَعْدَاً، ولا يحترمون ميثاقاً، ولا نأتمنهم نحن كلاب الشوارع على عِظامٍ مُلقاة في الشوارع الجانبية فهم يكدسون كل شيء، ويسرقون بيوت الله، ويدّعون أنهم ينتمون إلى الجنس الأرقى والأكرم والأنعم والأكثر تحضرا وتمدّنا.

لقد صنعهم سيدك وزعيم القصر لأنهم يلعقون حذاءه، ثم يضربون به أشراف القوم وممثلي الخير والعدل.سَيّدُك هو الذي جعلهم مسعورين ومفترسين. إنهم كارثة على الوطن، ونقمة على سطح الأديم، وهم أكثر تلوثا من الهواء والماء والأنهار والترع الراكدة ومياهها الآسنة الخضراء المتعفنة.

كلاب سيدك الذين أطلق أيديهم وأرجلهم كان من المفترض أن يكونوا من ذوات الأربع، معذرة فأنا لا يشرفني أن يكونوا مثلي.

إنني كلب هائم في الشوارع لكن كرامتي تسبقني، وأهاجم الأشرار فقط، ولا أهزّ ذيلي مثلما تفعل أنت لكل من يطلب منك الارتماء تحت قدميه.

عُد إلى قصر سيدك وقل له بأن يوم كلابه قادم لا محالة، وأن الذين ربّاهم وسمّنهم وأتخمهم ونزع الرحمةَ من قلوبهم وحشر السمومَ في نيوبهم الحادة سنجبرهم على أن ينزعوا الغلَّ من أعماقهم.

قل لسيدك بأن ايامه وأيام كلابه معدودة، وأن الحياة لا تستقيم إن اضحت كلها شَرّاً وإثما ودماء وظلما.

قل لسيدك أن يُعد حقائبَ هروبه، وأنْ يبلغ كلابَه المنتشرين في كل أرجاء الوطن البائس أن أشرافا يحملون أيضا نجوما ونياشين يستعدون في ثكناتهم لتطهير الوطن منكم جميعا.

قل لسيدك بأن طاهرا متطهرا سيخرج قريبا من مكان ما، ويحمل هموم وطنه، ويؤازره ثلة من المؤمنين بالحياة والجمال والخير والحب والتسامح والقيم.

قل لسيدك أننا اشرف من كلابه المبعثرين في الوزارات والهيئات الحكومية وتحت قبة البرلمان وفي مكاتب الصحف القومية الكبرى وفي الاعلام وفي أجهزة الأمن.

قل لسيدك أن أي كلب ضال في شوارع الفقراء والمظلومين والمهضومة حقوقهم أنبل وأكرم من الذين صنعهم، وأرضعتهم ذئاب قصره حليب المفسدين الشرسين والأوغاد.

كلب السلطة: لو لم يكن نباحي قد أصبح ضعيفاً كمواء القطط لجعلت كلَّ من في الوطن السجن يأتي ليسمع خرافاتك وخزعبلاتك وأوهامك وخيالاتك المريضة.

إننا نستعد لعصر جديد، ونسنّ أنيابَنا لعهد سنجعل الشرفاء والأحرار الذين تأمل أنت بهم خيرا أقل قيمة من جيفة القبور وهوامها.

إننا سنعلّمكم كيف تكون القيمة العليا لكلاب سيدنا، ولن نجعل طاهرا أو شريفا أو مؤمنا بالوطن يرفع رأسه.

إننا نخطط لابادة الشرفاء الذين تتحدث عنهم بالسموم والسرطانات والتلوث والفقر والمجاعة والمرض والفتنة الطائفية والغلاء والفساد، ونقوم بتصفية من نشاء تحت الأرض في سجون لا يعرف عنها أحَدٌّ شيئاً.

كلب الشارع: أراك تتحدث كسيدك، وتفكر مثله، وينتفخ غرورك كأن العالم كله آتاكم طائعا جاثيا مهينا.

عندما يخرج هذا البطل ذو الروح الطاهرة من ثكنته ومعه أبطال عاشقون للوطن والشرف فإن الصامتين الخائفين الضعفاء سينضمون إليه، وسيرفعون صورته، وسيدوسون على صورة سيدك.

إنه يوم قريب جدا، بل أقرب إلى الوطن من عبق زهرة تَحّتَكّْ بأرنبة أنفه.

إنه يعمل في احتياطات أمنية غاية في السرية والصعوبة، لكنه يسمع أنين أبناء وطنه، ونحيب نساء هؤلاء الرجال الذين ظن سيدكم أنهم لا يحلمون بمقصلة تهبط بسرعة الصوت فوق رأسه.

كلب السلطة: أراك تحتاج إلى راحة لعل أوّهَامك تزول، فسيدي الذي تظن أنه سيدُلّكم يوما ما على آثار جرائمه أعد للمستقبل كابوسا لكل مناهضيه، وزنزانات تحت الأرض لمن مرت بخياله سهوا فكرة معارضة حكمه، ومقابر جماعية تصغر بجانبها كل المقابر التي صنعها طغاة العصر وكل العصور.

لن يخرج من الجيش من ينقذ شعبه حتى يتحول البحر المالح إلى عذب.

لقد طال انتظار الضعفاء الذين تتباهى بقوة ايمانهم وعزيمة وصلابة قناعاتهم بغَدٍ مشرق ومبهج كمصابيح العرس الذي يجمع أبناء الوطن كلهم.

كلب الشارع: كما انتزع سيدك منك حاسةَ شَمّ اللصوص، فقد نزع عنك حكمةَ الهائمين على وجوههم مثلي، فيكفيك أن تجلس بجوار سيدة القصر تطعمك حتى تنام، وتتركك نائماًحتى تجوع. قل لسيدك بأن طائرة تنتظره وعليها طاقم كامل استعدادا للهروب. إنني جد فخور بابتعادي عن كلاب سيدك ولو كانوا يحملون فوق رؤوسهم وأكتافهم وصدورهم تيجان الدنيا ونياشينها وأوسمتها كلها.

كم أنا سعيد لأني كلب حقيقي يحتقر كلاباً صنعها سَيّدُك.

*رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
 


في الجمعة 23 مارس - آذار 2007 10:13:20 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=1397