|
تمثل الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 21 فبراير 2012 نقطة تحوُّل حاسمة في عملية انتقال السلطة سلمياً بموجب اتفاقية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية الموقعتان في 23 نوفمبر 2011؛ وكبداية لمرحلة انتقالية يُنتظر منها أن تقود إلى تفكيك منظومة السلطة العائلية التي حكمت البلاد خلال ثلث قرن مضى، والبدء بتأسيس بنية الدولة اليمنية الحديثة المنشودة.
وإذا كان الوصول إلى هذا اليوم هو ثمرة لاتفاقية المبادرة الخليجية، فهو قبل ذلك ثمرة للثورة الشعبية السلمية التي فجرها الشباب بداية العام الماضي 2011، والتي ما كان من المتصوَّر الوصول إلى مثل هذه الاتفاقية وإلى يوم 21 فبراير بدونها.
وفي هذه الورقة التي تتناول أهمية انتخابات 21 فبراير الرئاسية، سيكون من الواجب وضع هذا الحدث البارز في السياق العام لمسيرة تطور الفعل الثوري، باعتبار هذه الانتخابات ثمرة مباشرة لهذا الفعل الثوري، ومحطة هامة على طريق إنجاز أهداف الثورة.
أولاً: حتمية الثورة:
لم تكن الثورة الشعبية التي فجرها الشباب بداية عام 2011 حدثاً مفاجئاً لأي مراقب سياسي، بل كانت إرهاصاتها وعلاماتها بادية وواضحة للعيان، فضلا عن أي مهتم بالشأن السياسي.
لقد بدا واضحاً أن ظروف الواقع صارت ناضجة بما فيه الكفاية لتفجير الثورة، ولم تكن تنتظر سوى شرارة تفجيرها. وجاء هبوب رياح ثورات الربيع العربي ليوفِّر هذه الشرارة، ويؤكد أيضاًً حقيقة وحدة الظروف وأحاسيس المصير الواحد لهذه الأمة.
ففي نهاية عام 2010 تبيَّن بجلاء انسداد آفاق العمل السياسي، واستحالة التغيير التلقائي الديمقراطي من خلال آلية المنظومة السياسية القائمة، وأنه لابد من البحث عن طريق آخر للتغيير والإصلاح، ولم يكن هذا الطريق سوى طريق الثورة.
لقد تراكمت أخطاء النظام وخطاياه منذ عام 1994، كنتيجة طبيعية للسياسة الفردية الاستبدادية والإقصائية التي اختارها نهجاً له. ولم تكن هذه السياسة والممارسة لتثمر سوى تلك الأزمات المستفحلة التي استحكمت حلقاتها يوماً إثر يوم في كل أرجاء البلاد جنوبه وشماله وشرقه وغربه.
وقد استشعرت القوى السياسية الوطنية منذ وقت مبكِّر المخاطر الجسيمة التي تنتظر البلاد في ظل استمرار الوضع السياسي القائم، ومثَّل إطلاق أحزاب اللقاء المشترك عام 2005 لمشروعها للإصلاح السياسي والوطني بداية مرحلة جديدة في مسيرة العمل السياسي في البلاد. حيث شخصًّت هذه الوثيقة طبيعة الأزمات التي تعيشها البلاد منذ أمد بعيد، وحددت بوضوح جذرها الأساسي، المتمثل في غياب بنية الدولة المؤسسية الحديثة، واستبدالها بأشكال ديكورية فارغة من أي مضمون، تعمل خارج إطار المشروعية الدستورية والقانونية، وتخفي خلفها نظاماً فردياً مستبداً يقف عائقاً أمام تطلعات الشعب وأحلامه في التقدم والنهوض.
وقد تعاملت السلطة الحاكمة مع هذا المشروع بالاستخفاف والتجاهل، مدَّعية أن أحوال البلاد على ما يرام، وأن الحديث عن وجود أزمة مجرد وهم في أذهان من يتحدثون عنها.
وعندما أعلنت أحزاب اللقاء المشترك عام 2006 عن ترشيح المرحوم فيصل بن شملان منافساً حقيقياً على منصب رئيس الجمهورية، فإنها كانت بذلك تدشن مرحلة جديدة في مسيرة عملها السياسي على قاعدة السعي الجدي للتغيير. ويبدو ذلك واضحاً من خلال تحليل طبيعة ومضمون الحملة الانتخابية لمرشح اللقاء المشترك لرئاسة الجمهورية.
وكانت عملية الانتخابات اختباراً نهائياً لمصداقية الشكل الديمقراطي القائم، وإمكانية تحقيق التداول السلمي للسلطة من خلال آلياته. وجاءت نتيجة الاختبار مخيبة للآمال. وتبيًّن بوضوح أن السلطة القائمة لا تقبل مطلقاً إمكانية التداول السلمي للسلطة من خلال الآليات الديمقراطية، ومستعدة للقيام بكل شيء للبقاء على عرش السلطة مهما كان الثمن.
ورفضت السلطة الدخول في حوار جاد مع المعارضة لإصلاح آلية الانتخابات كمدخل للإصلاح السياسي، وتبيَّن ذلك بوضوح من خلال المشاورات التمهيدية للحوار في مدينة عدن نهاية عام 2007، ثم في التنصل من كل الاتفاقات التي تبرمها مع المعارضة وأهمها اتفاق فبراير 2009؛ مما اضطر اللقاء المشترك إلى اتخاذ قراره الجريء بالدعوة إلى حوار وطني شامل يتدارس أوضاع البلاد ويضع الحلول المناسبة لمعالجة أزماتها. وفي هذا السبيل انعقد في مايو 2009 مؤتمر التشاور الوطني، الذي ضم أغلب الفعاليات الوطنية، وأسفر عن تشكيل اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، التي باشرت عملها فوراً، وأنجزت في سبتمبر من نفس العام الوثيقة التاريخية الهامة (رؤية الإنقاذ الوطني).
وخلال عامي 2009/2010 ظلت السلطة تناور، وتحاول بكل الوسائل إجهاض عملية الحوار الوطني، ولم تدخر جهداً في هذا السبيل، ومن هذه الوسائل الدخول في الحوار مع المعارضة ولكن دون رغبة حقيقية في الوصول إلى النتائج المرجوة منه، وإنما لتمييعه وجعله مجرد ملهاة لا يفضي إلى أية نتيجة. وبعد أن تأكدت السلطة من جدِّية المعارضة المتمثلة في اللقاء المشترك وشركائه في سعيهم إلى تحقيق إصلاح سياسي حقيقي، تنصلت نهائياً من كل الاتفاقيات السابقة وأغلقت تماماً كل الأبواب أمام إمكانية استمرار الحوار، وأعلنت ذلك بصورة واضحة في 31 أكتوبر 2010.
واستمر اللقاء المشترك وشركاؤه في التحضير لانعقاد المؤتمر الوطني وكان مقرراً له أن ينعقد في مارس من عام 2011. كما دعوا في نفس الوقت إلى هبة شعبية لمواجهة سياسات النظام القائم، وقادوا تظاهرات حاشدة في أغلب محافظات الجمهورية ابتداءً من نوفمبر 2010، ولعل أهم محطاتها كانت تظاهرات 3 فبراير 2011. وفي 15 يناير صبيحة نجاح الثورة التونسية كأول ثمار ثورات الربيع العربي، خرج شباب جامعة صنعاء من المستقلين ومن المنتمين للأحزاب السياسية المعارضة في مسيرات حاشدة وعفوية تحت شعارات إسقاط النظام بكل وضوح، واستمرت هذه التظاهرات، حتى تم تأسيس ساحة التغيير أمام بوابة جامعة صنعاء، وقبل ذلك كان ثوار مدينة تعز قد أسسوا ساحة الحرية مكاناً لاعتصامهم، ثم توالت الاعتصامات في ساحات الحرية والتغيير في معظم محافظات الجمهورية.
وبعد دعوة أحزاب اللقاء المشترك رسمياً لأعضائها للانضمام إلى بقية أخوانهم المعتصمين ازدحمت ساحات الحرية والتغيير في أرجاء البلاد بالثوار، وبدأت أركان النظام تهتز. وكانت جمعة الكرامة نقطة تحوُّل بارزة في مسيرة الثورة، زلزلت أركان النظام،وبدا أن مسألة سقوطه مسألة وقت فقط. فبادر النظام بطلب الوساطات، والبحث عن مخرج لدى الأشقاء في دول الجوار، وتمخض هذا السعي عن مبادرة خليجية، تم التوقيع على أخر نسخة منها مع آلية تنفيذية لها في مدينة الرياض في 23 نوفمبر 2011.
ثانياً: المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية كطريق آمن لتحقيق أهداف الثورة:
تباينت الآراء والمواقف من اتفاقية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ؛ فهناك من يرى أن هاتين الوثيقتين يمكن أن تمثِّلا مخرجاً وطريقاً آمناً لتحقيق أهداف الثورة كاملة. وهناك من يعتقد أن هاتين الوثيقتين ما جاءتا إلا لإجهاض الثورة، وأن التوقيع عليهما كان تفريطاً بأهداف الثورة، بل هو خيانة لدماء الشهداء الذين سقطوا في سبيل تحقيق هذه الأهداف. وبين هذين الرأيين آراء أخرى متفاوتة.
ونعتقد أن مواقف الكثيرين إزاء اتفاقية المبادرة وآليتها التنفيذية كانت ناتجة عن قراءة متسرعة لهما. ومن الغريب أن هاتين الوثيقتين ـ وعلى وجه خاص الآلية التنفيذية ـ لم تحظيا بالدراسة السياسية والقانونية التي تستحقانها من قِبل المتخصصين في هذين المجالين؛ مع أنهما، في رأينا، من أهم الوثائق السياسية في التاريخ اليمني المعاصر. ولكن يبدو أن التجاهل والتغافل عن دراسة وتحليل هاتين الوثيقتين يأتي في سياق حالة عامة من السلبية والركود في الوسط الثقافي والفكري والعلمي طال أمدها. وسبق أن لاحظنا صورة من هذه السلبية عند صدور وثيقة أخرى هامة، بل نظنها أهم وثيقة سياسية في التاريخ اليمني المعاصر، وهي مشروع وثيقة الإنقاذ الوطني، الصادرة عن اللجنة التحضيرية للحوار الوطني في سبتمبر 2009.
وقبل أن نحدد وجهة نظرنا من اتفاقية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، سنقوم أولاَ بإعادة قراءتهما قراءة قانونية من خلال النقاط التالية:
1- ورد في البند (2) من المبادئ الأساسية لاتفاقية المبادرة الخليجية أن هذه الاتفاقية تهدف إلى ((تلبية طموحات الشعب اليمني في التغيير والإصلاح)). وفي هذا النص ـ بحسب رأينا ـ إشارة واضحة إلى الهدفين الرئيسيين للثورة، وهما:
إزاحة النظام السابق، وإقامة الدولة المدنية المؤسسية الديمقراطية الحديثة، فهذا هو المعنى الوحيد لكلمتي (التغيير والإصلاح) الواردتين في هذا السياق، ولا يوجد أي معنى آخر لهما.
2 - بالتوقيع على هذه الاتفاقية وآليتها التنفيذية تم انتقال كامل للسلطة من رئيس الجمهورية إلى المرشح التوافقي نائب رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، حيث تخلى الرئيس علي عبد الله صالح عن كل سلطاته، ولم يعد منذ اللحظة التالية للتوقيع متمتعاً بأية صلاحيات إطلاقاً. وهذا هو مقتضى تطبيق الاتفاقية وآليتها التنفيذية، وعلى وجه خاص نص البند (9) من الآلية الذي ينص على أنه (( فيالمرحلة الأولى [من الفترة الانتقالية] يمارس نائب الرئيس وحكومة الوفاق الوطني السلطة التنفيذية)) وهذا النص هو البديل لنص المادة (105) من الدستور التي تنص على أنه (( يمارس السلطة التنفيذية نيابة عن الشعب رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ضمن الحدود المنصوص عليها في الدستور)). أي أنه بموجب هذا النص حل نائب رئيس الجمهورية حلولاً كاملاً محل رئيس الجمهورية في كل سلطاته. وهذا النص صريح وواضح بعدم بقاء أية صلاحيات للرئيس السابق علي عبد الله صالح منذ التوقيع على الاتفاقية وآليتها التنفيذية، فالسلطة التنفيذية أصبح يمارسها الآن بموجب الآلية نائب رئيس الجمهورية والحكومة.
وبناءً على هذا الأساس أصبح علي عبد الله صالح منذ التوقيع على الاتفاقية وآليتها التنفيذية رئيسا سابقاً، ولا يجوز له مطلقاً أن يحمل صفة الرئيس منذ تلك اللحظة، ويجب أن يتوقف فوراً عن القيام بأي دور مهما كان هذا الدور هامشياً، ولا يجوز أن يتلقى رسائل أو تهاني، أو يرد على هذه التهاني والرسائل، وينبغي على كل أجهزة الإعلام الرسمية أن تتوقف فوراً عن إضفاء صفة الرئيس عليه، أو أن تقوم بأي تغطية لأي عمل يقوم به، أو رفع صورة له، وكل عمل من هذه الأعمال هو خرق صريح وواضح لأحكام الآلية.
ولا يمكن القول إن الرئيس السابق بقيت له صلاحيات بروتوكولية، أو أنه أصبح رئيساً شرفياً بأي حال من الأحوال. فلا يوجد ما يشير إلى مثل هذه الصفة في الاتفاقية أو الآلية، وهي لا معنى لها أصلاً.
3- حددت الآلية مهمة واضحة لحكومة الوفاق الوطني، وهي البدء فوراً بتنفيذ عملية الإصلاح والانتقال إلى حكم ديمقراطي رشيد، وفق ما جاء في البند (1ـ ت) من الآلية، التي أوجبت ((التنفيذ الفوري لمسار واضح للانتقال إلى حكم ديمقراطي رشيد في اليمن))، ووفق ما جاء في البند (13 ـ ت) الذي نص على أن تقوم الحكومة مباشرة بعد تشكيلها بــ ((إصدار تعليمات قانونية وإدارية ملائمة إلى جميع فروع القطاع الحكومي للالتزام الفوري بمعايير الحكم الرشيد، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان)).
وبناءً على ذلك ينبغي التأكيد على أن مهام حكومة الوفاق ليست كمهام أية حكومة عادية بل هي مهام محددة لحكومة انتقالية استثنائية، جاءت لتلبية مطالب الشعب الثائر في التغيير والإصلاح. وهذا بالطبع إلى جانب المهام الأصلية الاعتيادية للحكومة مثل: تحقيق الأمن والاستقرار، وتلبية الاحتياجات الأساسية والخدمات اللازمة للحياة اليومية في البلاد ...الخ.
5- لضمان تطبيق الهدف السابق اشترطت الآلية في البند (10 ـ ب) (( أن يكون المرشحون للحكومة على درجة عالية من النزاهة والالتزام بحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي))، وبموجب هذا النص ينبغي الاعتراض على أي شخص مرشح لمنصب الوزير يفتقر إلى هذه الصفات، كما يمكن في أي وقت عزل أي وزير إذا تبين وجود دلائل جدية تتعلق بعدم نزاهته أو عدم احترامه لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. وينبغي التمسك بحكم هذا النص وعدم التهاون في تطبيقه بأي حال من الأحوال. ويسري هذا الأمر على كل القيادات السياسية والإدارية المدنية والعسكرية والأمنية.
6- أكدت الآلية في (البند 15ـ خ) على شرعية تواجد الشباب في الساحات، ونصت على إجراء حوار مباشر معهم حول مستقبل البلاد، وإشراكهم في تقرير مستقبل الحياة السياسية.
7- فيما يتعلق بالحصانة المشار إليها في البند (5) من المبادئ الأساسية للاتفاقية، والبند (3) من الخطوات التنفيذية للاتفاقية، وكذلك البند (9) من الآلية، فينبغي إدراك أنه بموجب هذه النصوص لا توجد إلا ضمانات محدودة لصالح وأعوانه. وأقصى ما يمكن منحه من ضمانات لهم ـ بحسب القراءة القانونية الدقيقة للاتفاقية والآلية ـ لا يتجاوز ضمانات عدم القيام بإجراءات انتقامية ضدهم أو ملاحقتهم بمناسبة ممارستهم لمهامهم السياسية العامة. ومن ثم فإن منح أي نوع من الحصانة يتجاوز ذلك يمثل ـ في رأينا ـ خروجاً وتجاوزاً للاتفاقية والآلية، ومطعونا بشرعيته، وأن التطبيق السليم للآلية كان يقتضي أن يتم منح هذه الحصانة في إطار تنفيذ البند (21 ـ ح) من الآلية الخاص بتحقيق العدالة الانتقالية، بعد انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، حتى لا تتعارض هذه الحصانة مع ما يقتضيه تحقيق العدالة الانتقالية.
وبناءً على هذا الأساس، ففي رأينا أن قانون الحصانة الصادر برقم (1) لسنة 2012 هو قانون غير دستوري، ولا يمكن تطبيقه من الناحية الواقعية.
8- تنص الآلية في البند (21) على عقد مؤتمر حوار وطني شامل لكل القوى والفعاليات السياسية، يبحث في المسائل الجوهرية المتصلة بكيفية معالجة الأزمات القائمة، والتصورات اللازمة لإعادة تأسيس الدولة اليمنية على أسس جديدة مناسبة، وأهم هذه المسائل التي ينبغي أن يبحثها المؤتمر بحسب هذا النص من الآلية:
- القضية الجنوبية، وحالة التوتر في صعدة.
- النظر في صياغة دستور جديد يعالج بصورة أساسية شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي.
-تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، وضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان في المستقبل.
-النظر في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
9- ينبغي إدراك أن اتفاقية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، لم تأت إلا تحت ضغط الثورة الشعبية السلمية، وثمرة مباشرة لها. فلم يكن بالإمكان الوصول إلى هاتين الوثيقتين إلا بفعل الزخم الثوري في كل أرجاء البلاد، والمستمر حتى الآن.
ومن المهم تكييف هاتين الوثيقتين التكييف القانوني السليم، في السياق الذي ظهرتا فيه. وفي هذا السبيل نشير إلى النقطتين التاليتين:
النقطة الأولى: أن هاتين الوثيقتين تقرران بوضوح انتهاء مرحلة نظام علي عبد الله صالح، والانتقال إلى مرحلة أخرى جديدة؛ لتلبية مطالب الثورة الشعبية السلمية من خلال ((انتقال السلطة بطريقة سلسة وآمنة)) بحسب ما جاء في البند(3) من المبادئ الأساسية للاتفاقية، وبحسب ما جاء في البند (1 ـ ت) من الآلية من ضرورة القيام بــ ((التنفيذ الفوري لمسار واضح للانتقال إلى حكم ديمقراطي رشيد)).
النقطة الثانية: أن نصوص الوثيقتين هما بمثابة إعلان دستوري ينظم أحوال الفترة الانتقالية، حتى إقرار الدستور الجديد. ومن ثم فإن أحكامهما ستعلو على أحكام الدستور القائم، وذلك بناءً على البند (4) من الآلية، ولأنه لا يمكن تطبيق أحكام هاتين الوثيقتين إلا من خلال هذا التكييف لهما.
10- ينبغي إدراك أهمية الضمانات الواقعية التي تتمتع بها الاتفاقية وآليتها التنفيذية والمتمثلة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2014، وكذلك ضمانات الشركاء الإقليميين والدوليين الذين رعوا التوصل إلى هذه الاتفاقية، وهذا ما أكدته نصوص الاتفاقية في البند (عاشراً) ، وكذلك الآلية التنفيذية في البندين (28، 29).
وهذه الضمانات المعترف بها تعزز من إمكانية تنفيذها؛ خلافاً لوثائق أخرى سابقة لم تتوفر لها هذه الضمانات مثل وثيقة العهد والاتفاق.
ومن خلال القراءة السابقة لأهم بنود الاتفاقية وآليتها التنفيذية نعتقد أن هاتين الوثيقتين قد مثلتا بحق طريقاً آمناً نحو تحقيق أهداف الثورة. ويمكن القول إن تطبيقهما بصورة كاملة وصارمة يمكن أن يقود إلى تحقيق أهداف الثورة الشعبية السلمية كاملة.
ثالثا:أهمية الانتخابات الرئاسية في 21 فبراير كخطوة على طريق تحقيق أهداف الثورة:
يمثل يوم 21 فبراير 2012 يوماً فارقاً في الحياة السياسية اليمنية؛ حيث سيتم فيه إسدال الستار نهائياً على حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وفتح صفحة جديدة في التاريخ اليمني المعاصر، من خلال انتخاب رئيس جديد يحظى بتوافق سياسي كبير، وستكون مهمته قيادة البلاد خلال فترة انتقالية مدتها عامين، يتم خلالها ـ بموجب نصوص الاتفاقية وآليتها التنفيذية ـ استكمال إنهاء هيمنة النظام العائلي السابق على مؤسسات الدولة، والبدء بتأسيس بناء الدولة اليمنية الحديثة على الأسس الديمقراطية والحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان. ومع أن هذه الانتخابات لن تكون تنافسية بين عدة مرشحين، بل مجرد استفتاء بنعم أو لا على المرشح الرئاسي؛ إلا أنه من المهم حصول المرشح عبدربه منصور هادي على نسبة عالية من الأصوات في هذا الاستفتاء؛ لأن ذلك يحقق الآتي:
1-ـ منح الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي شرعية شعبية مباشرة، وهو ما سيعطيه ثقة كبيرة وقدرة على اتخاذ قرارات جريئة تتطلبها ظروف المرحلة الانتقالية.
2-سيعنى نجاح الاستفتاء إضفاء شرعية شعبية على المرحلة الانتقالية، وهذا أمر مطلوب من الناحية الدستورية.
3- يمكن أن يتحول يوم 21 فبراير إلى يوم تاريخي فارق في حياتنا السياسية وفي مسيرة الثورة، من خلال خروج شعبي كبير للمشاركة في هذا الاستفتاء، يؤكد فيه الثوار تحقيق الهدف الأول من أهدافهم، ويتمكن من لم يشارك أو لم تتح له فرصة المشاركة في الثورة من التعبير عن رأيه والإسهام بجهد ما في الثورة من خلال هذه المشاركة، ونعلن جميعاً في هذا اليوم طي صفحة الماضي، والبدء بتأسيس اليمن الجديد.
وإذا كان البعض يرفض اتفاقية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية أو بعض بنودها؛ ففي رأينا أن الواجب الوطني يحتم عليه أن يشارك بفعالية لإنجاح هذه الانتخابات؛ لأن في نجاحها إنجاز أول أهداف الثورة، وهو تحقيق التغيير المنشود.
ولا تعني مشاركته في الانتخابات الموافقة على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية كما يتوهم البعض، لكنها تعني ببساطة استغلال واقعة متاحة لتحقيق هدف مهم من أهداف الثورة. وهذا أمر مشروع، بل هو واجب. وبناءً على ذلك ينبغي الإشارة إلى أنه ليس صحيحاً ما يردده البعض أن المشاركة في هذه الانتخابات انحراف عن خط الثورة، وخيانة لدماء الشهداء، ...الخ، فهذه المقولات العاطفية الإنشائية لا معنى لها في الحقيقة، ولا تصمد أمام أي محاججة عقلانية. وعلينا إدرك أن الوفاء لدماء شهدائنا الإبرار لن يتأتى من خلال الرفض السلبي العدمي لكل شيء، ولن يتجسد هذا الوفاء من خلال إعاقة عملية التغيير المنشود، أو من خلال بث عوامل الفرقة بين صفوف الثوار وجرِّهم إلى معارك جانبية وهمية؛ لكن الوفاء لشهدائنا الأبرار أن نسير على طريق تحقيق الأهداف التي دفعوا حياتهم ثمناً لإنجازها. كما أن الوفاء لدماء الشهداء سيتجسد حقاَ من خلال جعل يوم 21 فبراير يوماً لاستشراف المستقبل، ومناسبة لاستحضار روح الثورة في نفوسنا جميعا، وفي كل شئون حياتنا، نغادر فيه حالة السلبية، ونسهم بإيجابية في صناعة التحول في بلادنا، وننجز بقية أهداف الثورة بإسقاط بقايا النظام الفاسد وسياساته، ونبدأ في إرساء قواعد بناء الدولة المدنية الديمقراطية المؤسسية الحديثة، لا نقصي فيها أحداً ولا ننتقم من أحد, بل نحتكم جميعاً لسيادة حكم القانون. ويبدو أن الظروف مواتية لتحقيق ذلك أكثر من أي وقت مضى. ولتجسيد ذلك علينا أن ندعو كل أبناء شعبنا لجعل يوم 21 فبراير يوماً فاصلاً في تاريخنا الحديث، من خلال عمل سلمي حضاري يتمثل في خروج الشعب بكل فئاته للمشاركة الفاعلة في تنصيب الرئيس الجديد، والإعلان عن بداية عهد جديد.
رابعاً: الإجراءات المطلوبة لإنجاز أهداف الثورة:
بتنصيب الرئيس الانتقالي يوم 21 فبراير ستبدأ مرحلة تاريخية جديدة في البلاد. وسيكون على الرئيس الجديد والحكومة إنجاز مهام انتقالية هامة؛ وفقاً لما نصت عليه الآلية التنفيذية لاتفاقية المبادرة الخليجية. ولا شك أن الطريق لن يكون مفروشاً بالورود، وهناك مخاطر جمة يمكن أن تعيق الرئيس الجديد والحكومة عن أداء مهامهما، لعل أهم هذه العوائق محاولات بقايا النظام السابق الوقوف أمام أية إجراءات للتغيير والإصلاح، وإعاقة تنفيذ مهام المرحلة الانتقالية، وهذا أمر طبيعي ومفهوم. ولكن ينبغي إدراك أن هذه القوى الماضوية ومهما امتلكت من عناصر القوة المادية، فإن أمرها في النهاية محسوم؛ حيث إن عجلة التغيير قد دارت ولن تعود إلى الوراء، ولن يتمكن أحد من إيقافها قبل أن تصل غايتها، في ظل الإجماع الشعبي على التغيير والإصلاح، والإصرار على تحقيق أهداف الثورة، وفي ظل الضغط الإقليمي والدولي لتنفيذ بنود اتفاقية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. ومع ذلك فإننا نعتقد أن العامل الأكثر خطورة على مسيرة التغيير والإصلاح، وإنجاز أهداف الثورة يتمثل في التهاون والقصور في فهم أحكام اتفاقية المبادرة وآليتها التنفيذية فهما دقيقاً واعياً، سواء لدى القائمين على تطبيق أحكامهما أو لدى شباب الثورة. فبالنسبة للقائمين على تطبيق أحكامهما، فإن القصور في فهم أحكام هاتين الوثيقتين فهماً دقيقاً، قد يفِّوت على الثورة إنجاز الكثير من الأهداف في وقتها المناسب، كما أن القصور في فهم أحكامهما من قِبل شباب الثورة قد يدفع البعض ـ بحسن نية ـ إلى إعاقة تطبيقهما، وتفويت الفرص التي يمكن أن تتاح من خلال هذا التطبيق، ومن ناحية أخرى قد يدفعهم الفهم القاصر لهاتين الوثيقتين إلى إهدار الكثير من طاقاتهم في معارك جانبية مع شركائهم في العمل الثوري، لن تؤدي في النهاية إلا إلى إعاقة مسيرة الثورة في الوصول إلى غاياتها. ثم إن هذا القصور في فهم أحكام الوثيقتين لدى الشباب قد يفوِّت عليهم فرصة القيام بدورهم الهام في مراقبة تطبيقهما، وتحقيق كل المكاسب التي تتضمنهما.
إن اتفاقية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وإن كانت قد وفَّرت طريقاً آمناً يمكن من خلالها تحقيق أهداف الثورة كاملة، إلا أن الوصول إلى ذلك يتطلب أولاً الوعي بما تقدمه هاتين الوثيقتين من مكاسب، ثم الإصرار علي تحصيل هذه المكاسب كاملة، كما يحتاج إلى جهود كبيرة، ويقظة دائمة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق النتائج المرجوة، وأهم هذه الإجراءات المطلوبة:
1-ـ الالتزام الكامل والصارم من قبل الحكومة بأحكام الاتفاقية وآليتها التنفيذية، وهذا يقتضي الآتي:
- الالتزام الفوري الصارم بأحكام القوانين، ومعايير الحكم الرشيد في عمل كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، وعدم التغاضي عن أي تجاوز أو خرق للقانون سواء في إطار الوزارات والمؤسسات التي تقودها المعارضة أو الوزارات والمؤسسات الأخرى.
- الالتزام الصارم بمعايير الكفاءة والنزاهة في تعيين العناصر القيادية في جميع الوزارات والمصالح والمؤسسات، وإيقاف العناصر الملوثة عن العمل تمهيداً لاتخاذ إجراءات قانونية ضدها.
- التزام كل الوزارات والأجهزة والمصالح والمؤسسات التابعة لها بمبدأ الشفافية في عملها، وأن تكون كل الوثائق والبيانات متاحة لذوي المصلحة، وللوسائل الإعلامية المختلفة.
-إيجاد أدوات رقابية رسمية كُفئة قادرة على مراقبة أداء الحكومة وأداء الأجهزة والمصالح والمؤسسات التابعة لها، من خلال تفعيل دور الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وتمكينه من أداء دوره على أكمل وجه.
2- إيجاد رقابة شعبية قوية وضاغطة على أداء الحكومة، من خلال لجان رقابية شعبية داخل كل مصلحة حكومية، تتولى الكشف الفوري عن أية مخالفات قد تحصل، والتنبيه عن أي تقاعس في عملية الإصلاح.
3-ـ بقاء الاعتصامات في الساحات، واستمرار ضغوطها في اتجاه إنجاز كل أهداف الثورة.
4- الإعداد الجيد لمؤتمر الحوار الوطني، باستيعاب كل الفعاليات السياسية والاجتماعية، وتوفير مناخ ملائم لحوار جاد ومسئول حول كل القضايا الهامة التي سيبحثها المؤتمر، وأهمها القضية الجنوبية وقضية صعدة، والتوجهات العامة لصياغة الدستور الجديد للبلاد.
5-الاهتمام بمسألة تحقيق العدالة الانتقالية، من خلال تبني قواعد وإجراءات تؤدي فعلاً إلى معالجة كل قضايا انتهاك حقوق الإنسان منذ بداية الدولة اليمنية المعاصرة في سبتمبر1962، ونوفمبر 1967. وبحيث تتضمن إجراءات عقابية، وألا تقتصر المعالجة على مجرد التعويض المادي والمعنوي الذي لن يكون إجراءًا كافياً لغلق ملفات الماضي نهائياً، بل ربما أدى ذلك إلى تأجيجها ونفخ الروح فيها مرة أخرى.
كما لا بد من أن تتضمن المعالجات ما يقضي على نزعات الثأر، ويطفئ نار الانتقام، ويفضي إلى مصالحة وطنية حقيقية راسخة.
* أستاذ فلسفة وتاريخ القانون المشارك
كلية الشريعة والقانون ـ جامعة صنعاء
في السبت 18 فبراير-شباط 2012 08:51:32 م