عن فيصل عبد اللطيف الشعبي
عبد القوي الشعبي
عبد القوي الشعبي
 
فيصل عبداللطيف وجمال عبدالناصر
 

ولد فيصل عبد اللطيف في قرية شعب, مديرية طور الباحة- الصبيحة, محافظة لحج, عام 1935م. والده الشيخ عبد اللطيف الشعبي – شيخ مشايخ شعب آنذاك, وكان من أوائل اللذين أكملوا تعليمهم الثانوي في عدن. وهو متزوج وله ولدان وبنت. وكان جده عبد القوي ناصر من اللذين نالوا حظاً من التعليم في تركيا.

كان لوالده عبد اللطيف دوراً وطنياً في محاولاته توحيد قبائل الصبيحة ووحدة موقفهم وكلمتهم وهو ما أزعج الإنجليز – وسلطنة لحج اللذان كان يديران مناطق الصبيحة – وكان أن تآمرا لاغتياله في مدينة الحوطة – عاصمة سلطنة لحج .

نشأ فيصل يتيماً حيث كفله عمه الشيخ محمد عبد القوي الشعبي أو عرف بمحمد رشاد الشعبي.

تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة جبل حديد أو أولاد الرؤساء والمشايخ والأعيان وهي المدرسة التي تقع فوق جبل حديد المشرف على الدكة البحرية التي تحولت الآن أي الدكة إلى ملاهي للأطفال.

بعدها انتقل للدراسة المتوسطة أو الإعدادية في المدرسة المحسنية العبدلية في الحوطة / لحج التي كانت تديرها بعثة تعليمية مصرية – أظهر فيصل نبوغاً وذكاء تقرر عليه إرساله في منحة إلى مصر لمواصلة الدراسة.

التحق بجامعة عين شمس, كلية الاقتصاد والتجارة, بمصر, وحصل على شهادة البكالاريوس.

شارك أثناء الدراسة في مصر متطوعاً في وحدات كتائب الطلاب أثناء العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956م .

كان لأرثه العائلي الوطني وتواجده في مناخ ثورة يوليو في مصر أثره في صقل وعيه وإثرائه, ووجد حينها في حركة القوميين العرب ضالته؛ وهي الحركة التي نشأت وقامت على أثر النكبة الفلسطينية 1948م.

بعد التحاقه بحركة القوميين العرب, حضر عدة دورات في دمشق ثم كلف بمهمة تأسيس فرع الحركة في اليمن, مما تتطلب منه الاستفادة من الإجازات السنوية التي يعود فيه إلى الوطن وكذلك قطع الدراسة أحيانا للعودة لقيادة العمل التنظيمي وترسيخ عملية التأسيس والإنشاء.

منذُ بداية العام 1959م استطاع فيصل بما كان يتمتع به من ذكاء وخبرة تنظيمية وثقافية واسعة وقدرة قيادية من تشكيل أولى الخلايا التنظيمية للحركة في اليمن, وساعده في ذلك كل من الأخوة المناضلين المرحوم سلطان أحمد عمر، وعبد الحافظ قائد، وسيف الضالعي، وطه أحمد مقبل وعلي أحمد ناصر السلامي وأصبح فيصل المسئول الأول عن قيادة فرع الحركة في إقليم اليمن منذُ العام 1959م.

من المفيد الإشارة إلى أن فيصل وزملاءه المناضلين كانوا في رؤيتهم وتفكيرهم النضالي أكثر تقدماً ونضوجاً من فكر ورؤية قيادة الحركة في بيروت التي استبعدت إمكانية قيام ونجاح أي ثورة مسلحة في عدن ضد الاستعمار البريطاني حيث قرروا بإرادة وعزيمة قيام هذه الثورة, وذلك بعد حوارات طويلة مع فصائل حزبية ووطنية وقيام الجبهة القومية.

بعد تخرجه من جامعة عين شمس عاد إلى عدن والتحق بالعمل في وزارة التجارة التابعة لحكومة عدن وذلك لفترة خمسة أشهر, اضطر بعدها للتفرغ للعمل التنظيمي والإعداد لانطلاقة الكفاح المسلح الذي اتسع ليشمل كل الولايات الجنوبية, وكان له فضل الإعداد والتحضير لفتح جبهة عدن؛ كونه المسئول الأول عن فرع الحركة في إقليم اليمن, واستمر في ذلك حتى منتصف العام 1965م, حيث اضطر للانتقال إلى تعز بناء على طلب قيادة الجبهة القومية لتولي مسئولية العمل المركزي من هناك.

سرعان ما عاد إلى قيادة العمل في عدن متخفياً في نفس العام نتيجة لاعتقال السلطات البريطانية لمعظم الصف القيادي في عدن حوالي 45 كادراً قيادياً إثر خطأ وحادثة معينة أدت إلى اكتشافهم, وظل فيصل في قيادة النضال الوطني حتى عام 1966م.

بعد الدمج القسري للجبهة القومية في جبهة التحرير, 13 يناير 1966م, كان فيصل من المعارضين للدمج؛ بصفته مؤامرة تمت خارج الأطر الشرعية والتنظيمية للجبهة القومية (المجلس التنفيذي), وإن كان مؤيداً لوحدة كل القوى الوطنية المؤيدة للكفاح المسلح وذلك عبر الحوار والأطر الشرعية, وإن الدمج كان قراراً لمشكلة صراع من بعض الدول العربية, وإن في الدمج خطوة أخرى بعد اتفاقية جدة لإنهاء خلافاتها في النصف الثاني من عام 1966م شارك مع رفيقه الشهيد محمد أحمد البيشي مع جيش التحرير في إسقاط منطقة الحواشب، وبينما كانا عائدين بعد تحريرها سقطا في كمين نصبته لهما جبهة التحرير ونقلا إلى تعز وسلما للجهاز العربي هناك حيث ظلا معتقلين لفترة قصيرة, ثم سافرا إلى القاهرة في محاولة لإبعادهما عن قيادة النضال للجبهة القومية ومعارضتهما للدمج, وظل فيصل هناك لفترة 9 أشهر لا يستطع مغادرة القاهرة.

مكن في النصف الأول من عام 1967م وبجهود ووساطة من قيادة حركة القوميين العرب لدى الرئيس الخالد جمال عبد الناصر في الخروج إلى بيروت ومنها إلى أسمرا تم تعز متخفياً واستمر كذلك حتى وصوله إلى عدن.

أسهم مع خيرة المناضلين في الجبهة القومية في عملية الانسحاب من جبهة التحرير وعودة الجبهة القومية لممارسة النضال المسلح تحت أسمها.

سهم في قيام وقيادة معركة 2 يونيو 1967م, حيث تم الاستيلاء والسيطرة على مدنية كريتر لفترة أسبوعين تقريباً ذاقت فيها بريطانيا أقسى الهزائم في كبريائها وهيبتها وخسارة جنودها.

في العام 1967م وأثناء المباحثات بين الجبهة القومية وجبهة التحرير في القاهرة لتوحيد الصف الوطني, تمت بعدها المحاولات التي بذلت لوقف الاقتتال الأهلي بين الجبهتين, والذي كان بحق مأساة وطنية مؤلمة تركت آثارها على مسيرة الوطن لاحقاً, كان فيصل وبشهادة الكثير من القيادات الصادقة من جبهة التحرير أكثر الناس حرصاً على وحدة الصف الوطني وبشروط عادلة للطرفين وأكثرهم حرصاً على وقف نزيف الدم, لكن يبدو أن هناك عواملَ أخرى أقوى من حسن النوايا لدى البعض.

شارك في محادثات ومفاوضات الاستقلال الوطني مع بريطانيا والتي كانت قائمة على لغة التفاوض عبر مفاوضات مباشرة ومتكافئة وغير مشروطة تقوم من الجانب الوطني على أسس التسليم أولاً بالحقوق الوطنية الكاملة كشرط للقبول بالتفاوض وأن التفاوض سيكون حول التفاصيل والوسائل لأفراد السيادة الوطنية وانتقالها حول المبادئ الأساسية والتي حددت في إعلان الجبهة القومية.

تسلم وزارة الاقتصاد والتجارة والتخطيط في أول حكومة وطنية بعد الاستقلال وكان يدين كل المزايدات في هذا الجانب والتي رأى فيها قفزاً على الواقع، ويرى ضرورة تركيز الدولة على الرأسمال الوطني وضرورة مساهمته في الداخل والخارج في عملية التنمية الوطنية وإشراك الرأسمال الوطني في المهجر في هذا الجانب, كما كان يرى ضرورة الاستناد إلى المكونات الأساسية ومرتكزات الاقتصاد الوطني وأهمها الزراعة والثروة السمكية والمغتربون اليمنيون مع التخطيط السليم للاستفادة من ثروات الوطن البترولية والمعدنية وقوبل ذلك من قبل اليسار الطفولي بالممارسات الهدامة والمزايدات ومقولة الصناعة أولاً التي لا أساس لها في واقعنا.

كان يؤمن بأن التخطيط السليم للثورة هو الأساس الحقيقي ونجاحها مرتكزاً على وحدة القوى الوطنية, ومن هنا كان إيمانه بحشد القوى الوطنية ووحدتها ضمن إطار عمل تنظيمي متغلغلًا في صفوف الشعب بكل فئاته واتجاهاته, مع العمل في صفوف الجيش والأمن والطلبة والعمال والقبائل والمرأة والمثقفين, وكان التركيز على هذه العناصر:

- وحدة وطنية

- إستراتيجية وطنية واضحة مرتبطة بوحدة النضال العربي

- بناء تنظيمي متماسك

- بناء عسكري فعال

- أهداف وغايات وطنية واضحة وسليمة

- التعامل مع المتغيرات السياسية

وكان فيصل يؤمن بضرورة التعايش مع الآخرين, رغم الاختلافات, من منطلق حق الآخرين في التعبير عن آرائهم, لكن ضمن الحوار وليس التآمر.

لم يؤمن بأن الدم والقتل والاغتيالات وقمع الحريات وسيلة لحل الخلافات, بل رأى فيها تصعيداً لها, وعَمِلَ على حقن دماء الكثير, سواء في جبهة التحرير أو في الجبهة القومية, وكان دائم الترديد بأن من يبتدئ في الدم لا يستطع إيقافه, ويتحمل بذلك المسئولية الوطنية والتاريخية في هذا الجانب.

برغم أن كثرة الاعتداءات الخارجية التي شنت على الوطن مباشرة لا تمثل خطراً حقيقياً, يرى فيصل أن الخطر الحقيقي هو تفكك الجبهة الداخلية وتمزقها, ويرى في ذلك نقطة الضعف لأي نظام, وهو ما تحقق فعلاً عندما عمد اليسار الطفولي في القيادة العامة للجبهة القومية بإثارة الكثير من الإرباكات والمؤامرات تحت سفارات الماركسية وآخر بوحدة الصف في الجبهة القومية, وقادها إلى المزيد من النزاعات الدموية انتهاء بـ13 يناير 1986م.

قدم فيصل استقالته من الحكومة ووزارة الاقتصاد؛ نتيجة للمزايدات والإرباكات التي افتعلها البعض, ولم تقبل استقالته. وأخيراً عهد إليه تحمل المسئولية التنظيمية في العمل التنظيمي لتنظيم الجبهة القومية.

عيّن وزيراً للخارجية ثم بعد ذلك رئيساً للوزراء في أبريل 1969م.

جمّد نفسه بعد حركة 22 يونيو 1969م الانقلابية ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية في منطقة الرئاسة, وفي مارس 1970م تم نقله إلى سجن الفتح الرهيب.

بُذلت جهود حثيثة من قبل الزعيم جمال عبد الناصر لدى عدن للإفراج عنه وإقامته في القاهرة, وكذلك من قبل الزعيم بو مدين ودولة الكويت, لكن تلك الجهود ذهبت عبثاً.

في 02 أبريل 1970م, تم اغتياله في سجن الفتح داخل الزنزانة رقم (4). ولم يُعرف قبره حتى الآن.

لـ فيصل عبد اللطيف الشعبي العديد من المؤلفات والتعميمات التنظيمية, وكذلك كتيبات في النضال الوطني أهمها: اتحاد الإمارات المزيف, ومفاوضات لندن.

قال عنه كل من عرفه: إن فيصل أحد أبطال اليمن اللذين بذلوا حياتهم في سبيل الوطن, وتميز بحكمته القيادية وبجسارة المناضل وعمق المثقف ونبوغ السياسي الفذ.

الجريمة

في ليلة بدت تباشيرها كئيبة رهيبة مظلمة وموحشة مثلها ككآبة ووحشية وظلمة ورهبة سجن معسكر الفتح أمام بوابة رئاسة الجمهورية في التواهي, هي ليلة الثاني من أبريل 1970م. حدثت جريمة اغتيال وحشي بحق قائد وطني قاد نضال شعبه مع إخوته المناضلين، وقاد وطناً إلى الاستقلال الناجز وغير المشروط، وحقق وطناً موحداً وحدة أكثر من اثنين وعشرين مشيخة وإمارة وسلطنة. استقلال منتزع بقوة النضال مع إحدى الدول الكبرى في العالم، وفي موقع يعتبر جوهرة ما تبقى للتاج البريطاني من مستعمراته تلك هي مدينة عدن التي احتمى بها الوجود البريطاني لحماية ممتلكاته ومستعمراته ومصالحه في منطقة الجزيرة العربية وشرق أفريقيا التي تقع عليها حماية تلك المصالح ضد الوجود الدولي المنافس ولحماية طرق المواصلات البحرية، وخطوط الطيران الدولي وحماية منابع ومصافي أهم ثروة إستراتيجية واقتصادية في العالم وهي حقول النفط في الجزيرة والخليج وخطوط مواصلاته البحرية الدولية عبر باب المندب في الجنوب وقناة السويس في الشمال.

كان الانتصار في الثلاثين من نوفمبر 1967م عودة الروح وعودة الأرض والوطن وتحقيق وحدة أرض الجنوب في ظل سيادة وحكومة مركزية.

خاض فيصل الشعبي قتالاً مريراً ضد الوجود البريطاني في ساحة الجنوب، وكما كان قائداً للنضال في اليمن كان قائدًا للنضال في عدن في مواجهة مباشرة مع بريطانيا ابتداءً من إعلان الثورة وحتى الاستقلال. كان مناضلاً ومقاتلاً ومفكراً ومخططاً.

قاد معركة 20 يونيو 1967م مع خير المناضلين من المدنيين والشرطة والجيش. معركة جمعت كل المناضلين الوطنيين وسقطت مدينة كريتر من أيدي القوات البريطانية وأصبحت تحت سيطرة الجبهة القومية لفترة أسبوعين تقريباً, لم تستطع بريطانيا بكل جبروتها أن تنل منه، لكنها, ويا للأسف, حققت هدفها باغتياله في زنازين الفتح الرهيب. بعد سنة ونصف من الانتصار الوطني حققت هدفها منه في وجود سلطة وطنية وموجهين بالاغتيال في ظل السلطة الوطنية.

في السابعة من مساء الخميس الدامي، الثاني من أبريل 1970م وفي معسكر الفتح الذي بنته بريطانيا لاحتجاز جنودها في مخالفاتهم فيها ولمدة 12 ساعة يعودون بعدها إلى مواقعهم, وبعد وجبة العشاء الفقيرة للمحتجزين في زنازين المعسكر ومنهم فيصل والمكونة من ملعقة فول وقرص روتي, كان فيصل قابعاً في الزنزانة رقم (5) وقحطان في رقم (6) من مجموعة (13) زنزانة في حوش على شكل مربع تعلوه مكاتب قيادة المعسكر ومكاتب التحقيق.. الخ, حيث يقع في وسط مربع الزنازين حوش أو ساحة كبيرة متعددة الاستعمالات للتعذيب، وإرهاق المعتقلين بالضرب ليلاً ليلتهي بهم الزيانية وهم في حالة سكر.

كانت أرضية الزنازين بائسة مجردة من الفرش, ممتلئة بالحشرات, عديمة النظافة ومفروشة بالحصى للنوم عليها على طريقة فقراء الهنود الذين ينامون على المسامير. هذه الوضعية للزنازين تزيد من قساوة وظلمة ورهبة سجن الفتح ولياليه. جُمّع الجنود من كل زنزانة بعد الانتهاء من العشاء, وفجأة وبعد إقفالهم للزنازين, لم يعد الجنود للحراسة, وهو الأمر الذي ليس له سابقة. يخيم سكون وخشية وهواء ساكن فاسد. يرتبك المعتقلون ويخيم عليهم الصمت, وكل منهم يستشعر بحاسته وبديهيته خطراً قادماً وإنهاء ليلة غير الليالي.

وفي هذا الوقت وفي الطابق الذي يعلو الزنازين, كان هناك اجتماعاً وخصوصاً في غرفة قيادة المعسكر, ثم يقطع هذا الصمت صوت أجش من الأعلى من غرفة قيادة المعسكر لم يفهم بوضوح, وإن كان فهمه المعنيون الزبانية، حيث أطفئت أنوار الحوش, وأضواء الزنازين وتبقى أنوار غرفة القيادة. تنتهي هذه الحركة بدخول أربعة من الزبانية بآلياتهم الأربعة يقطعون الحوش على أضواء غرفة القيادة المشرفة وتبقى الغرفة رقم (4) ذات الباب الأبيض الخشبي مضاءة, سميت بيضاء تميزاً لها عن الأبواب الحديدية السوداء للزنازين الأخرى. كانت هذه الغرفة تستعمل أيام الإنجليز صيدلية للجنود البريطانيين المحتجزين وبداخلها غرفة صغيرة للتمديد حولها الزبانية الطغاة إلى غرفة تعذيب, ويفتح الزبانية غرفة رقم (5) ويقتادون فيصل بعصبية وعنجهية لم يصمد برغم مقاومته, ويقتادونه إلى الغرفة البيضاء ويرمونه رمياً على أرضها، ثم رغم الخوف والرهبة المسيطرة على المعتقلين إلاَّ أن المشهد شد انتباههم, وكذلك أضواء الغرفة البيضاء التي أخذ إليها فيصل, وتنطلق من فيصل صرخة ألم شديدة، تبين إنها طعنة (سونكي) خنجر الآلي في صدره، قبل أن تتلاشى صدى صرخة الألم في أرجاء المعسكر وداخل الزنازين تنطلق أربعة آليات مفرغة ذخيرتها في جسده الطاهر, ومزقته إرْباً (أو كما قال المنفدون لاحقاً لقد جعلنا جسده منخلاً) يقصدون "غربالًا".

تطفأ أنوار الغرفة البيضاء وأنوار غرفة القيادة في الأعلى, ويسود الساحة والمعسكر ظلام دامس وسكون مصحوب بالخوف والهلع وحيرة لجريمة لم يعتدها القابعون في الزنازين, وذهول لجريمة لم يألفها الناس وليس لها من مسببات تستدعي هذه الوحشية في الفعل، وإذا كان هناك قانون لفعل فعله, لكن القانون يغيب في ظل الهمجية ليعلن انطلاق ينبوع الدم الطاهر, ليعلن البدء في مرحلة التصفية الدموية لأبطال وقيادات الثورة دماً يرضى الأعداء ويسوء الأصدقاء المخلصين, جريمة ترتكب عن صاحبها صاحب الشأن الذي تجرع كأس المرارة على يد البطل فيصل في معركتنا الوطنية لنيل الاستقلال.

أسباب اغتيال فيصل عبد اللطيف

أثارت حركة 22 يونيو 1969م الكثير من ردود الفعل الغاضبة لدى كثير من قيادات وكوادر الجبهة القومية, وفي أوساط الشعب وحتى لدى بعض القيادات في الأحزاب الأخرى التي حلت.

وعندما تم اعتقاله ثارت ثائرة الكثير من الكوادر في الجبهة وحتى في السلطة وطرح هؤلاء على الانقلابيين. تذكروا مواقف فيصل منكم في كل مؤامراتكم وتذكروه في مؤامرة الدمج 13 يناير 1966م وسعيه معكم لتجاوز مواقعكم فيها. تذكروا 20 مارس 1968م ودوره تجاهكم وتجاه عائلاتكم وأطفالكم وأحداث مدينة الشعب و14 مايو 1968م، وتمردكم وهروبكم إلى الشمال وسعيه إلى إرجاعكم إلى الداخل أو علاجكم في الخارج... الخ.

اشتدت هذه الضغوط من كوادر الجبهة القومية ومن بعض عناصر السلطة وبذلت محاولات للمصالحة بين الطرفين الانقلابيين المطاح بهم, وكادت أن تؤدي إلى نتائج كما كانت عليه العادة والحال في الجبهة القومية قبل انقلاب 22 يونيو 1969م, حيث كان فيصل يقود مسعى المصالحة وتجاوز الخلافات من منطلق أن هؤلاء وإن أخطئوا فلهم أدوارهم الوطنية التي لا يمكن نسيانها, وكان مع حرية الرأي وضد كل فعل أو حركة تقود إلى السلاح، كما هو الحال في 20 مارس و14 مايو ولكن بشرط المحاسبة التنظيمية.

شعرت مجموعة من السلطة بالأخطار القادمة والقائمة على جهود المصالحة وبالتالي الخطر من المحاسبة, فكان اللجوء إلى الانقلاب واستعمال الجيش والأمن في حركة 11 يونيو 1969م.

ولهذا وانطلاقاً من أهمية شخصية فيصل وأثره على التنظيم والسلطة في حالة نجاح مسعى المصالحة وعودته وخطورتها, أي العودة على الجناح المتآمر. كان لابد من قرار جانبي بإفشال المصالحة وكان القرار بحماقة كبيرة وغير معهودة وذلك باغتياله بعيداً عن اللجنة التنفيذية والقيادة العامة وأعضاء التنظيم وبمشاركة بعض عناصر حركة القوميين العرب في بيروت وهو ما عرف بمجموعة (صحيفة الحرية) نايف حواتمه ومحسن إبراهيم.

أدركت المجموعة الانقلابية المتآمرة المعارضة للمصالحة آثارها وخطورة السكوت عن سير عملية التفاوض والمصالحة, فكان لابد من وقفها بطريقة تشكل حسماً وهزيمة نهائية لتلك المجموعة في اللجنة التنفيذية، والقيادة العامة، وكوادر التنظيم والحكومة في جهدها في محاولة لم الشمل من جديد في إطار الجبهة القومية, لذا أخذ هذا الاتجاه المغامر يستبق الأمور مدركاً أن الأسلوب الأكثر حسماً لإفشال المصالحة نهائياً هو البدء بمسلسل الدم والاغتيالات والذي يدق إسفيناً حقيقياً في مسيرة المصالحة ويعمق من الفعل وأثره فكان لهم ما أردوا.

وهكذا جرى الدم الذي كان من الصعب إيقافه وهو ما تجسد في مؤامرة اغتيال الشهيد فيصل عبد اللطيف أن تدفق دمه الطاهر وكان بداية المسيرة في عمليات الاغتيالات والسجن والاختطاف ودفن الأحياء وحادثة الطائرة الدبلوماسية .. الخ. إنها عصابة تآمرت على قيادات من أشرف القياديين والمناضلين وأكثر الناس حيرة وذكاء.

من الغريب أن الضحية الأولى لهذه المسيرة الدموية كان الإنسان الذي وقف ضد هذا النهج سواء أثناء النضال أو السلطة، ووقف ضده حامياً بذلك كل مغامرات الطفولة اليسارية وعبثها، حماهم سواءً من السلطة أو الفدائيين وعناصر الجبهة الذين حاولوا أكثر من مرة وقف هؤلاء عند حدهم، معتبرين السلطة والتنظيم متساهلة معهم أكثر من اللازم رغم خطورة أفعالهم الطفولية على المسيرة الوطنية.

لقد وقع الشهيد فيصل ضحية القيم ضحية مواقفه الشريفة تجاه الآخرين في تآمرهم، لكن العزاء برغم فداحة الحدث أن قناعاته وقيمه أسهمت في سلامة أرواح وحياه الكثير, وأكثرهم ممن أسهم في قرار اغتياله ومن رجالات الأحزاب المعارضة أثناء الكفاح وبعده.

إن مؤامرة اغتيال فيصل الشعبي استمرت مع ما تبقى من الصف القيادي الأول للثورة في طائرة (الدبلوماسيين), وكذلك بقية العناصر القيادية في التنظيم والدولة, وهو ما يدل على أمرين:

- إن هذه المجموعة المتآمرة كانت من الصفوف الثانوية في الثورة. كانت ترى في بقاء هذا الصف القيادي الأول خطراً على بقائها في الحكم وتهديداً لها وسداً مانعاً في الوصول إلى السلطة.

- إن ضمان البقاء في السلطة هو تصفية ما تبقى من هذا الصف القيادي الأول سواء بالاغتيالات في (الزنازين) أو بالمحاكمات الصورية مثل محاكم الشعب التي كانت تفتقر إلى الخلفية القانونية والتي تقرر أحكامها في جلسات ليلية ثم تسلم أحكامها لهيئة محاكمة الشعب قبل مباشرة المحاكمة الصورية مثل الشهداء على عبد العليم وسالم الكندي وفرسان خليفة والكسادي... الخ, أو المؤامرات ومذبحة طائرة الدبلوماسيين الذي يندي لبشاعتها الجبين بكمية المتفجرات المستعملة في تنفيذها وفي طريقة إخراجها وتحديد إحدى الطائرات لهم في عتق وإجبارهم على ركوبها بدلاً من ترك ذلك لخيارهم كما أتوا من عدن.

إن الطلب الملح أخلاقياً وإنسانياً هو الاستجابة من الإخوة في الاشتراكي وأولئك الذين أصبحوا خارجه ممن يعرفون مثوى فيصل الأخير وغيره أن يبادروا إلى الإعلان بشكل رسمي أو شخصي بالاستجابة لمطالبة أطفاله وأهله ومحبيه بالتعريف بالموقع والمكان الذي أخفوا جريمتهم فيه وهو قبره، إذ أن لأبنائه وأهله ومريديه الحق من معرفة المكان، ونحن هنا لا نطلب منهم المستحيل بإعادته إلى الحياة ولكن معرفة موقع مثواه الأخير.

*عبدالقوي الشعبي الأخ غير الشقيق لـ فيصل عبداللطيف.


في الجمعة 29 يوليو-تموز 2011 12:40:45 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=11166