لا حسمَ عسكرياً في اليمن... إذاً فلا حلَّ سياسياً
بقلم/ عبدالوهاب بدرخان
نشر منذ: 6 سنوات و أسبوع
الجمعة 16 نوفمبر-تشرين الثاني 2018 10:04 ص
  


ما الذي تغيّر لكي يصبح إنهاء الحرب في اليمن أولوية دولية، وما الذي استجدّ حتى صار التعايش مع هذه الحرب صعباً جتى في واشنطن وهي الأكثر كسباً منها، بمقدار ما هو صعب لدولٍ تضاءلت مكاسبها وتريد رفعها؟ أهو الوضع الإنساني الذي لم يعد انسانياً البتة أم أنه ارتفاع عدد الضحايا من المدنيين، أهي صراعات سياسة ومصالح متنكّرة بتداعيات قتل الصحافي جمال خاشقجي لابتزاز السعودية أم أنها الصراعات ذاتها لكن تبدّلت فيها المواقف على خلفية التعارض الاميركي - الاوروبي في شأن الاتفاق النووي والعقوبات المشدّدة على ايران؟ إذا كان الدافع اخلاقياً فقط فإنه لا يستدعي أي تساؤل، وكلّ تحرّك لإنهاء أي حرب مرحّبٌ به، حتى لو جاء متأخّراً.


مؤلمة حرب اليمن، خصوصاً معاناة الشعب الذي أسره الحوثيون. يسرقون الاغاثات لإطعام مقاتليهم ويتّخذون من المدنيين درعاً يحتمون به، يستخدمون مآسيهم لصنع صورة «انسانية» لأنفسهم، يدفعونهم الى الموت ويلقون المسؤولية على الآخرين. قال زعيمهم أخيراً إن «الاستسلام لا يكون ولن يكون»، ولا ترجمة لذلك إلا ان القرار محسوم عنده، أي عند ايران، بأن هذه حربٌ بدأت لتستمر الى أن تتحصّل طهران على «الثمن المناسب» لوقفها. ما أدّى الى اطالة الحرب أن الحوثيين خرجوا من كهوف صعدة الى السيطرة والاستئثار بالسلطة من دون شركاء، ولن يتردّدوا في تدمير المدن إذا كان عليهم أن يعودوا الى تلك الكهوف التي لم تعد آمنةً على أي حال. والدمار ليس غريباً على ايران وأتباعها، فهي تعممه حيثما حلّت وحلّوا.

بدأ الفصل الثاني ويُفترض أن يكون الأخير من معركة الحديدة بالتزامن مع انطلاق دعوات اميركية الى وقف اطلاق النار والذهاب الى مفاوضات سياسية، هذه المرّة في السويد، وبنهاية الشهر الحالي، وقد جرى تأجيلها. لم يُعرف إلامَ استند وزيرا الدفاع والخارجية الاميركيان حين حدّدا بكل وضوح وثقة موعداً لنهاية الأعمال القتالية، ومع افتراض أن العلاقة الوثيقة مع الرياض وأبو ظبي تتيح لواشنطن ضمان تعاونهما إلا أن شيئاً لا يضمن تعاون الانقلابيين. طلب مايك بومبيو وقف الحوثيين اطلاق الصواريخ على السعودية والامارات ووقف الغارات الجوية للتحالف العربي. أما جيمس ماتيس فأشار الى «نزع أسلحة» أسلحة الحوثيين ووضع صواريخهم تحت «مراقبة دولية»، كذلك الى عن «لا مركزية» أو «مناطق حكم ذاتي» في نهاية المطاف. كان الوزيران يخاطبان خصوصاً أعضاء في مجلسَي الكونغرس من الجمهوريين والديموقراطيين يضغطون منذ فترة طويلة، حتى قبل أن تطرأ قضية خاشقجي، للعمل على وقف الحرب في اليمن. غير أن ضغوطاً كهذه في واشنطن وما يماثلها في لندن وبرلين وعواصم اخرى انطوت دائماً على نقاط مثيرة للجدل: فهي تتذرع بالوضع الانساني مثلاً علماً بأن مسؤوليته لا تتعلق بطرف واحد في الحرب، كما أنها تتجاهل أسباب الحرب على رغم صدور قرارات دولية في شأنها، ثم أنها تغفل البُعد الايراني بتهديداته ومخاطره.

أصبح معروفاً أن ما ينُتظر من معركة الحديدة أن تغيّر موازين القوى ميدانياً، خصوصاً اذا أضيف اليها التقدم من جهة جبل مران في صعدة شمالاً، كذلك الضغط الحاصل في جبهات الضالع والبيضاء. ويدرك الانقلابيون أن منطقة يخسرون السيطرة عليها تفقدهم نقاطاً وتُضعف موقفهم التفاوضي الذي تراجع كثيراً منذ اغتيالهم علي عبدالله صالح وتلاشي تحالفهم مع حزبه. لذلك يتعاملون مع التحضير لأي تفاوض بطرائق شتى. إذ يعتبرونه فرصة لعرض شروطهم، وأولها وقف الحرب الذي مطلب طهران منذ اليوم الأول وباتت مطلباً لدول اوروبية الى أن أصبح الآن مطلباً اميركياً وإنْ بمحدّدات وأهداف مختلفة. وحين يكتشفون أن مسألة وقف الحرب لم تنضج دولياً يدفعون بمطالب بغية كسر الحصار المفروض عليهم وإذا لم يحصلوا على تنازلات مسبقة من الطرف الآخر يحيطون مشاركتهم في التفاوض بالغموض ثم يُخضعونها لمناورات تستهدف استدراج ضغوط على الحكومة الشرعية والدول الداعمة لها. في غضون ذلك يبقون هم متحرّرين من أي ضغوط، كونهم قوة أمر واقع وليسوا «دولة» أو «حكومة ذات شرعية»، وبالتالي فليست عليهم أي مسؤولية.

منذ اخفاق مشاورات (مفاوضات) الكويت منتصف العام 2016 لم ينجح أي مسعى في اعادة جمع الطرفين للتداول في احتمالات حلٍّ سياسي. ومَن تابعوا الجهود السابقة اختبروا عن كثب انعدام الارادة لدى الحوثيين للتفاوض الجدّي، إذ إنهم أضاعوا معظم الوقت في جدالات على العموميات. فالأمم المتحدة التي ترعى المشاورات ملزمة بمرجعية القرارات الدولية ولا سيما القرار 2216 فضلاً عن المبادرة الخليجية كونها بمثابة «دستور انتقالي موقّت» وكذلك توصيات الحوار الوطني الذي أجري بإشراف أممي. غير أن الجانب الحوثي لا يعترف بأيٍّ من هذه المرجعيات، ولا يعترف بالحكومة الشرعية بل يعتبرها مجرد طرف آخر مناوئ له، وسواء صرّح بذلك أم أبقاه كخلفية للتفاوض فإنه أربك عمل الوسيط الأممي والوسطاء الآخرين الذين تدخلوا لـ«التسهيل» كما قيل وانتهوا عملياً الى الضغط على الحكومة الشرعية لاستدراج تنازلات. ولم يتح الحوثيون في أي لحظة الاقتراب من أي بحث رصين في النقطة التي تشكّل محكّاً لاستجابة أي حل، وهي الانسحاب من المدن وتسليم الاسلحة المنهوبة من ثكن الجيش اليمني.

تتكثّف الجهود الدولية مع السعودية والامارات اللتين أعلنتا بوضوح انهما لن تضيّعا أي فرصة سانحة لجمع الأطراف اليمنية في محادثات جديدة. ومثلهما رحّبت الحكومة الشرعية، لكن أحداً لم يعرف الموقف الحقيقي للحوثيين، فحتى المبعوث الأممي مارتن غريفيث لم يغامر أخيراً بإعلان أي موقف في شأنهم بعدما خذلوه في ايلول (سبتمبر) الماضي وفوتوا الفرصة التي أتاحها لهم في جنيف، لكنهم لم يأتوا. وكانوا خذلوه أيضاً في كل ما اقترحه لنوع من التحييد للحديدة وبالأخص ميناءها. لذلك لم يبقَ أمام الجيش الحكومي سوى استكمال الزحف لاستعادة الحديدة. حتى لو لم تعلن القوى الدولية مواقف صريحة فإنها تراهن ضمناً على أن تضغط التطوّرات الميدانية على الحوثيين ليكونوا أكثر استجابةً للجهود الديبلوماسية، وعدا ذلك فليس لدى المجتمع الدولي أي وسائل اخرى للضغط على الانقلابيين، طالما أن ليست لديها قدرة للضغط على ايران.

المفارقة أن العديد من المصادر الاميركية يضع التصعيدَين العسكري والسياسي في إطار الضغوط الاخرى التي تمارس على ايران، ومنها العقوبات الجديدة. لكن، إذا كانت طهران تقوم بحملة بروباغندية واسعة إظهاراً لتحدّيها الولايات المتحدة فإنها لن تتوانى عن حفز أتباعها الحوثيين على التمثّل بإشهار التحدّي أيضاً. كما أن طهران التي لا تقاتل بجنودها ولا تحارب على أرضها لا شيء يضطرّها لتسهيل مهمة الغربيين. صحيح أن وقف الحرب كان هدفها ومصلحتها في آذار (مارس) 2015، عندما كان الحوثيون بكامل زخمهم وقوتهم واستعدادهم للاستحواذ على اليمن، أما الآن فإن طهران ترى أن وقف الحرب بات هدفاً ومصلحةً غربيين، وبإمكانها أن تبدي أولاً استجابة لإظهار قوة تأثيرها لكنها ستتشدّد في مرحلة التفاوض لضمان مكانة جماعتها الحوثية في المعادلة اليمنية المقبلة.

تزامنت المحاولات التي بذلت لإصدار قرار من مجلس الأمن يطلب وقف الحرب ودعوة الفرقاء الى الانخراط في مفاوضات، مع تلويح الادارة الاميركية بإدراج جماعة «أنصار الله» (الحوثيين) على قائمة المنظمات الارهابية. هناك صيغة في مشروع القرار الدولي تقترح أن يكون التفاوض «من دون شروط»، فإذا عنت التفاوض من دون مرجعيات فإنها ستبدو كأنها تنزع الاعتراف الدولي بالحكومة الشرعية، وبالتالي ستلبي طموح عزيزاً على الايرانيين والحوثيين، وعندئذ يصعب ضمان نجاح أي تفاوض ما لم يحقق الانقلابيون أهدافهم بإرادة دولية هذه المرّة.