نظارة كبيرة... حذاء أكبر
بقلم/ تركي الدخيل
نشر منذ: 6 سنوات و شهر و 15 يوماً
الثلاثاء 09 أكتوبر-تشرين الأول 2018 06:14 م
  

هؤلاء الذين لا نراهم في الإحصاءات العامة... الذين يصعب تمييزهم، بل ويستحيل التعرف عليهم في طريق عام، لكنْ كل منا يعترف بأفضالهم، يفرح لأفراحهم، ويعرف أن أحزانهم قد لا تكون بالصفحة الأولى في صحيفة «الشرق الأوسط»، ولا حتى في الصفحة الأخيرة من الداخل، لكن أحدنا لا يستريح ولا يطيب له نوم قبل أن يواسيهم في أحزانهم، قبل أن يعترف ولو مرة بأثرهم عليه، في بساطتهم الصادقة.

لا شك أن مجموع الفاعلين الطيبين في حياتنا اليومية، هو ما يجعل العيش على هذا الكوكب أسهل؛ مدير المدرسة الذي يضبط ساعته كما يضبط جداول الفصول، الوكيل الذي نتذكره جاداً دقيقاً، يعرف كل التفاصيل، وإن لم يتحدث معنا كثيراً في يوم من الأيام، المرشد الطلابي الذي يقصده كل والد ليتأكد من جدية ابنه في التحصيل، البواب الكهل ذو التقاسيم المريحة، الذي يعرف موعد انصراف ابنتك الصغيرة من ابتسامة السائق خلف زجاج سيارته، ذاك الذي يمسك بيد الطفلة والولد الصغير كي يقطع معهما الشارع باتجاه المقعد الخلفي للسيارة.

ضابط الجوازات الذي يبتسم لمئات القادمين عبر المطار، مخففاً بابتسامته من وعثاء السفر، الشرطي الذي يحلم بشريط على كتفه، وقبلهما الجندي الذي ودع أمه كي يحمي نوم الأمهات جميعاً على الحد الجنوبي، رجل المرور الذي أسعف كثيرين وانتظر الإسعاف، ودون أن ينتظر شكراً من أحد، استقل سيارته وذهب ليباشر حادثاً آخر على الطريق السريعة في ليل أدهم...

قاضٍ يرفع يده للسماء كي لا ينسى مظلمة لعجوز جاءت من بعيد، سائق في قرية نائية من قرى بلادي يطمئن على عجلات سيارته، على الزيت والماء في مكينة السيارة، كي يضمن توصيل المعلمات صباحاً لقرية مجاورة، طبيبة في مناوبة مزعجة تحافظ على ابتسامتها، إيماناً منها بأن حسن استقبال المريض والتخفيف عليه واجب، قبل أن تفحصه، أو تمسك بالقلم لكتابة وصفة طبية.

صحافي متردد في صياغة الخبر، أو متأخر لأنه لم يجد صورة تليق بخبر يظن أنه سيوصل الحقيقة، تاجر يعرف أن أمانته هي سر رزقه، وأن من جعل الأمانة ديدنه، شاركه الناس في مالهم وأرزاقهم.

طالب يرى الدنيا كلها نتيجة هذا الفصل الدراسي، يكحل عينيه بالسهر، كي يدهش والديه قبل أن يفرح نفسه، وأستاذ جامعي عاد للتو من مؤتمر مثّل فيه البلاد ليرفع من تصنيف الجامعات... باحث في غرفة صغيرة ليلاً يساعد في اكتشاف عقار، أو يفتش بجد عن برهان رياضي لمسألة معقدة قد تقلل من تكلفة المنتج على المستهلك الذي لا يعرفه.

والدة تمسك يد طفلتها، في قرطاسية مجاورة لاختيار ألوان طلبتها المعلمة لمعرض اليوم الوطني، وبائعة خلف الكاشير تبتسم وترفض أن تأخذ سعر اللون الأخضر، لأننا جميعا مدينون بالكثير لهذا اللون الذي يجعلنا جميعاً مواطنين صالحين.

مَن المواطن الصالح، وهل له تعريف من خلاله نستطيع التعرف على الآخرين من أشباهه الكرام؟

المواطن الصالح في تعريفي البسيط، هو صاحب النظارة الكبيرة والحذاء الكبير، كما يقول المثل الإنجليزي؛ صاحب النظارة الكبيرة، لأنه رأى المشهد كاملاً، ثم اختار بعناية مكانه المناسب داخل طبقات المجتمع، فهو معلم يحب عمله، ومدير وصل لمقعده باستحقاق، بعد انتظار طويل، وضابط يسهر ليله لأن الرتبة المقبلة، ستجعله راضياً عن أدائه في خدمة بلاده قبل أن يتقاعد، ووالدة تدخر الريالات كي تفرح في عرس ابنتها البكر، ووالد في مهجر بعيد يمنع نفسه من وجبة لذيذة ليرسل آخر الشهر الرسوم الجامعية لابنه الوحيد.

هؤلاء الذين لا نراهم على شاشة الأخبار، الذين ينامون مبكراً ويستيقظون قبل الفجر، هؤلاء المتكدسون في السادسة صباحاً على الطرق السريعة، للوصول قبل الدوام، والباقون حتى بعد انصراف المدير لإنهاء معاملة لا تربطهم بصاحبها صلة قربى ولا اتصال أو توصية من صديق قديم، هؤلاء الذين ينجزون الأعمال لإيمانهم - فقط - بأنهم سواعد الوطن وأن كُلاً منهم راع ومسؤول عن رعيته ومن يعول.

وهم أصحاب الأحذية الكبيرة، لأنهم يضعون أنفسهم مكان الآخرين، فلا يظلمون ولا يشتمون، يصبرون في الدقيقة التي ينفجر فيها الآخرون عادة، لأنهم يقفون داخل حذاء المواطن الآخر في هذه اللحظة، صبرهم ولطفهم هو تعليقهم الدائم على كل من يفقد أعصابه في الصف الطويل، يوصون بعضهم بالصبر، لا يتدخلون كثيراً لتغيير مسار التاريخ، بعكس كل المثقفين والمستعجلين على المناصب، يخافون المناصب خوف الفقير من آخر الشهر، وقلق الغني من ارتداد سهم في السوق.

هم الجيش الذي يستيقظ كل صباح، ليخدم في المكان الذي اختاره أو وجد فيه نفسه من جهات الوطن، أحلامهم واضحة، أمنياتهم صادقة، تخطئهم العين أحياناً لكن لا يخطئهم القلب أبداً.

تتشابه أيامهم وتختلف أمنياتهم، لكن لا بلاد من دونهم، لا أوطان قوية دون جموع المواطنين الصالحين، هؤلاء الذين من جيوبهم يكبر الأطفال، وبأيديهم تختم المعاملات، بحراستهم للأنظمة يتخلف الفساد...

هم الآباء الذين نراهم في اجتماع أولياء الأمور، والأمهات اللاتي لا يعرفن اسم رئيس كولومبيا، ولا آخر هاشتاغ في «تويتر»، لكن يعرفن مواعيد استيقاظ أولادهن للمدرسة، وأوقات امتحاناتهم، ويواظبن على متابعتهم. هم الشباب الذين يقودون سياراتهم، دون أن يرموا علبة فارغة في الشارع، أو يستهتروا بإشارة مرور، أو بتجاوز نسبة السرعة المحددة على الطريق.

هم الذين لا يمكن تلوين نسبتهم من نسبة السكان بعَلم الوطن، بل هم سارية العَلم، وتراب الوطن، وأغنية الاستمرار للأبد، تحية من القلب لهؤلاء العاديين جداً، لكنهم يجعلون حياتنا وأوطاننا... أجمل.