عن النموذج التركي وأردوغان وحقيقة العلاقة بالعلمانية 6
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 8 سنوات
الأربعاء 23 نوفمبر-تشرين الثاني 2016 02:58 م
يتبع: هل حزب العدالة علماني إذا؟ العودة إلى الذات وسط حقل ألغام:
أتذكر أن زميلاً فلسطينياً كان يقيم في استانبول جمعتني به مناسبة فعالية تلك الزيارة في 2007م قال – وقد اتضح لي أنه واحد من ضحايا هذا النموذج – : "إن حزب العدالة والتنمية حزب غير صادق في شعاره الإسلامي". وآية ذلك عنده أن (المحجبات) لايزال محرّم عليهن دخول الجامعة، مستنكراً: لماذا لم يسارع الحزب إلى إصدار قرار فوري يقضي بالسماح لهن بذلك، عقب توليه زمام الأمور هناك؟ ألا يدّعي أنه اتجاه إسلامي؟ 
ومع أني أجبت عليه بتلقائية: "إن ذلك أمر لا أشك أنه في أجندة الحزب، بوصفه من قضايا الحرية التي تميّز بها، على حين أخفق فيها الآخرون. وقد نسمع بقرار من هذا القبيل يوماً، إن طال أمد الحزب في الحكم، ولكن من شأن جعل ذلك أولوية الأولويات- ولاسيما مع ما يعانيه المواطن التركي من أزمات متتابعة في المعيشة بصورة خاصة- أن يعجّل بتصديق الشائعات التي يروّج لها أصدقاء محاوري، ولهذا تداعياته التي يعلم عواقبها كل من تابع أو شهد مافعلته العلمانية التركية طيلة العقود السابقة لحزب العدالة والتنمية، بأحزاب ذات مرجعية إسلامية، ولكنها كانت أكثر وضوحاً في ذلك من العدالة والتنمية، فلاقت مصير القمع والإقصاء والسجن والمصادرة. ولم يطل الوقت حتى جاء اليوم القريب الذي كان ينتظره كثيرون منهم ذلك الزميل، ولكن ليس في قرار الحزب السماح للمحجبات بدخول الجامعة، بل في المطالبة بحل حزب العدالة والتنمية، لمحاولته الخروج على المبادئ العلمانية الأتاتركية! 
ومع أن غلاة العلمانيين الأتراك، وجدوا في تلك المحاولات في ذلك الحين ضالتهم، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل خيبة كبيرة، حين لم يتمكنوا من المضي بها حتى الإسقاط الفعلي للعدالة، لكنهم لم ييأسوا، بل لايزالون، يحاولون إعادة عجلة التغوّل العلماني إلى الوراء. وليت شعري : هل قرّت عينا محاوري الفلسطيني بعد ذلك الإجراء ؟! 
أما تنبئي بصدور قرار للحزب يوماً بالسماح للمحجبات بدخول الجامعة، ومع أن تفكيراً في الاقتراب من تغيير قانون الحجاب يعدّ في نظر العلمانية التركية تفكيراً في المساس بـ(قدس الأقداس)؛ فلم يطل الوقت إذ حاول الحزب في 7فبراير/شباط2008م عبر البرلمان إدراج تعديل على الدستور يسمح للنساء ارتداء الحجاب في الجامعات التركية، مبرِّراً ذلك بأن كثيراً من النساء لن يتمكنَّ من إكمال تعليمهن، بسبب استمرار ذلك الحظر، غير أن المحكمة الدستورية كانت أسرع إلى إلغاء ذلك التعديل الدستوري، من قبل البرلمان، ففي 5يونيو/حزيران2008م أصدرت حكمها بإلغاء ذلك التعديل البرلماني للدستور، فظل الحال على ما كان عليه! لكن محاولات الحزب لم تتوقف في هذا المسار، إذ أصدرت الحكومة برئاسة رجب طيب أردوغان في 2012م قراراً يسمح للمحجبات في الوظيفة العامة بارتدائه، خلافاً للوضع السابق الذي كان محرماً على موظفة عامة ارتداء الحجاب. وفي 23سبتمبر/أيلول2014م أصدرت الحكومة التركية برئاسة أحمد داوود أوغلو قراراً قضى بالسماح بارتداء الحجاب في المدارس الثانوية(قبل الجامعة). وعلى حين عدّ أصحاب القرار وأنصار الحريات ذلك يأتي في سياق توسيع الحريات؛ فقد عدّه العلمانيون إدانة للحزب، وسعياً منه للتخلص من الأسس العلمانية للجمهورية التركية. ولايزال الحزب ماضياً في هذا المسار وغيره من مسار الحريّات الفردية، كما لاتزال الاتهامات ذاتها تحاول النيل منه. 
ولقد تجسَّدت بعض مظاهر ذلك المسار أثناء الانقلاب الفاشل في 15/7/2016م، حين صدحت المآذن في استانبول تحديداً بالأذان عشية ذلك الانقلاب، في إعلان غير مباشر برفض الانقلاب، ودعوة ضمنية للصلاة والدعاء بإفشاله، وإشارة إلى مدى التغيير الذي أحدثه نظام العدالة والتنمية في عودة العلاقة بين الشعب وعقيدتهم، ولذلك يروي شهود عيان أن صلاة الفجر صبيحة 16/7/2015م كانت نادرة وتاريخية وغير مسبوقة، مما أكّد البعد الإسلامي لنظام العدالة والتنمية، ومدى التغيير الذي أحدثه، بسلوكه وفعله، وخطابه المتفرّد، والتفاف أغلبية الشعب التركي حوله. وكأن أردوغان يحقق ماكان تغنى به يوماً، من أبيات لشاعر تركي حين كان عمدة أسطنبول في 1999م، وقضى بسبب ترديده تلك الأبيات أمداً في السجن، وقد جاء فيها:
" المساجد ثكناتنا...المآذن رماحنا...قباب المساجد خوذاتنا...والمصلون هم جيشنا"!!
وأكّد أردوغان على هذه الأبيات وهو رئيس للدولة في 3/2/1438ه- 3/11/2016م عند إجابته على سؤال عن سبب دخوله السجن، وهو في موقع رئيس بلدية استانبول، يوصف بالناجح جدّاً -وفقاً لوصف الصحفي في حواره مع أردوغان- فأجاب بأن السبب في ذلك أبيات شعرية رددها علانية. وسئل عما إذا كان يجرؤ على إعادة تلك الأبيات التي كانت سببا في سجنه، أم أنه يخشى العودة إلى السجن ثانية حتى لو غدا رئيساً؟ فقام بترديدها أمام المشاهدين، و لكنه شدّد على المترجم في ضرورة الدقة عند ترجمتها وقال:
مآذننا حرابنا...وقبابنا خوذاتنا...المساجد معسكراتنا... والمؤمنون جنودنا
لايمكن لشيء أن يجعلنا نتراجع، ولو فتحت السماوات والأرض، وفتح علينا الطوفان والجبال المحترقة
أجدادنا الذين نفخر بإيمانهم لم يركعوا يوماً أمام الأمور التي تجعل الإنسان يرتجف 
أبواب الانتصارات وطاب الأناضول من ملاذ كِرد وحتى تشناق قلعة، حتى قلعة الإيمان التي لايمكن هدمها. الشيء الذي جعل أجدادنا ير فلون من انتصار إلى انتصار هو وحدة العقيدة التي نعيشها (21).

وللمرء أن يدرك من خلال هذا الموقف مدى البون الشاسع الذي حققه حزب العدالة والتنمية - وفق طريقته- في جانب الحقوق والحريات بصورة عامة، والعودة إلى الذات، والارتباط بالهوية بصورة أخص.
والواقع أن أسلمة الحياة في تركيا أمر لايستحق أن يصوّر تهمة سببها حزب العدالة والتنمية؛ إلا حينما يصبح معيار الغرب في الحكم على الأشياء والظواهر والمجتمعات والقيّم هو المحكَّم، واستعماره الثقافي وغزوه الفكري قد استحكم وبلغ مداه في الطغيان. أمّا الحقيقة فإن أسلمة الحياة في أي مجتمع إسلامي ليست بأكثر من تأكيد على هويته وأصالته، وعلى ذلك فربما كان

لحزب العدالة الفضل الأكبر في الإسهام في تحقيق ذلك بفعالية، وإن جاء ذلك متدرّجاً - بطبيعة الحال- حيث أعاد الشعب التركي لهويته المستلبة من قبل الأعداء الحضاريين للأمة، ممثلين بقوى الغرب الرسمي، ودوائر الاستعمار بأشكاله المختلفة، ولكن عودته تلك جاءت بطريقته الخاصة الهادئة نسبياً. يتبع بإذن الله.  ا.د أحمد محمد الدغشي. من صفحتي على الفيسبوك
الهوامش والمراجع:
(21) أردوغان، قناة الجزيرة، برنامج المقابلة، ج1، مرجع سابق.