مذكرات زائر لعرفات ومنى والجمرات
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 11 سنة و 6 أيام
الخميس 24 أكتوبر-تشرين الأول 2013 04:14 م

عرفات ومنى ومزدلفة والجمرات ..أسماء لكل أنواع وألوان وأصناف السعادة الروحية والوجدانية .. إنها أسماء لسعادات وجماليات لا تدانيها سعادة ولا فرح ولا بهجة ولا سرور، إلا اللهم تلكم السعادة والبهجة التي يجدها عبدٌ خرج مرابطاً بنفسه وماله، في سبيل الله، على ثغر من ثغور الإسلام، كدمشق وريفها وحمص وحلب وحماة واللاذقية .. على نحو ما قاله خالد بن الوليد رضي الله عنه: \" ما أهديت إليّ فتاة أنا لها محب، بألذّ إليّ من ليلة شاتية أجالد فيها العدو على ثغرة من ثغور الإسلام\".

حدثني كثيرون عن مخاوفهم الشديدة، من أن يشهد حج هذا العام بعض الفوضى والشغب بسبب الأوضاع العامة في مصر وسوريا، زاد من هذه المخاوف تغريدات بعض أبطال الفيسبوك والتويتر.

بيد أنّ ما نعرفه من أحوال السواد الأعظم من عقلاء الإسلاميين أنهم بعيدون عن هذا الشأن، بل هم أحرص الناس على أمن بلاد الحرمين واستقرارها لما تكتنفه هذه البلاد من القدسية ولما تضم من الحرمين الشريفين، والأماكن والبقاع المقدسة، ومعلوم أيضا لدى الجميع أنّ من أهم مقاصد الحج الإيمانية والتربوية إشاعة جو الإخاء والحب والتسامح بين المؤمنين، وتناسي كل أسباب الخلاف والشقاق.. وهذه أمور نحسب أنّ أحرص الناس عليها هم الإسلاميون عقلاؤهم ومجانينهم على حد سواء، سيما بالأخص مكة والمدينة، وبالتالي فلم أشعر بقلق من هذه الجهة بوجه من الوجوه، فثمة محاذير شرعية ومقاصدية وسياسية تجعل الإسلاميين وغير الاسلاميين لا يجرؤن على تجاوز هذه المقاصد والمحاذير، أياً ما يكن الأمر .

لم يبق من عرفات سوى 24 ساعة خرجنا عقب صلاة العشاء من ديارنا التي تبعد عن مكة نحوا من 1200 كم يقود المركبة بدوي، ما أنْ ركبنا معه حتى قال إن من عادته النوم باكراً، ولا يتجاوز سهره ال 11 ليلاً، وبدا عليه آثار النعاس، وكان برفقته صعيدي، وثالثة الأثافي، تهامي أيضا، وبعض الأعاجم، فالتقينا على قدر، وخضنا في أمر الزواج بالمصريات الصعيديات على وجه أخص، فما كان من البدوي إلا أن قال : ودي أتزوج صعيدية ، ولو ب 100 ألف ريال، سيما بعد أن حدثنا الصعيدي عن طرائف ونوادر وفضل بنات الصعيد على بنات \"البندر\" حدثنا الصعيدي عن الصعيديات وعن إبداعاتهن في التغذية بألوان الفراخ، وإبداعهن في حسن التبعل والتغنج للزوج.

كان الصعيدي كلما قال حكمة، قلتُ وهذا ما قاله الإمام ابن القيم قدس الله سره، في كتابه روضة المحبين، وأسرد كلام الاكام ابن القيم رحمه الله ..حتى طار النوم من عينيّ البدوي، ومن عيوننا كذلك.

وصلنا صباحاً إلى وادي الدواسر، فقلنا للبدوي وش رايك نزوجك دوسريةً قال: لا أبغ عن الصعيدية بدلا ولا عنها حولا.. المهم طار نعاسنا ونعاس أخينا البدوي، بل لا أدري هل نام الرجل أو لم ينم إلى الآن ..!!! بعد ذلك الحديث الماتع عن الصعيديات .

نسأل الله الكريم أن يرزقنا الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل .

لا يفوتني هنا أن أسجل أنّ كاتب هذه الأسطر صدع بأنشودة تاريخية هزت الوجدان وأطربت القلوب مطلعها :

ربنا الإله ما لنا سواه ..خالق الوجود موجد الحياة

يا أخي استجيب واطلب المجيب ... يفرج الهموم يفرح الغريب ..

نزلنا عرفات مساءاً، بجوار مسجد نمرة، ورأينا حشودا هائلة من المؤمنين والمؤمنات في عرفات، استعدادا لليوم التاسع، يوم الوقوف بعرفة، والتعرض لنفحات الرحمن، قمتُ باكراً قبل الفجر، عسى أن أجد مكانا في مسجد نمرة، فلم أجد، فلقد امتلأ المسجد عن آخره.

وما أنْ أشرقت شمس يوم عرفة، حتى أخذ كل حاج موقعه، استعدادا للابتهال والدعاء والتضرع إلى الله في هذا اليوم العظيم، وما أن أشرفت الشمس على الزوال، حتى وقف الخلائق بين يدي الله داعين متضرعين خاشعين، ما بين باكٍ وراكع وساجد، وتال للقرآن، على نحو بديع، وصورة يندر أن تشهد لها مثيلاً، رجال ونساء، صغار وكبار، أصحاء ومرضى، شيوخا وعجزة، الكل يجأر إلى الله بالدعاء، ويستغيث به، ومن أولئكم الخلائق جماعة كبيرة بعرفات، رأيت أحدهم يدعوا بلغته الهندية، وهم يبكون حوله وينتحبون انتحاباً عظيما كأن بين أيديهم ميتاً .

فيا لها من ساعات لا تقارن ولا تماثل، يكفي أن يرحم الله كل أهل عرفات، لوجود مشهد من تلكم المشاهد التي يخشع فيها بعض الحجيج، فكيف والحال أنّ كل من في عرفة كلهم بصوت واحد يلهج بالدعاء والتكبير والتلبية، تشعر في هذه اللحظات بقرب رحمة الله وفضله وكرمه وعفوه، شعرت أنّ اهال سيغفر في هذا اليوم لكل أهل عرفة جميعاً لولا وجودي فيهم .

شارفتِ الشمس على المغيب وبدأ الحجيج ينفرون نحو مزدلفة، للبيات فيها، ترى تلك الكتل البشرية الهائلة، كلها ترجوا الله وترجوا ثوابه ورحمته ومغفرته، كلهم على قلب رجل واحد.

لقد ذابت كل الدعوات الطائفية والنزعات العرقية والشعوبية والقومية والسياسية على جبال عرفات ومنى ومزدلفة، إنه مشهد التآخي والحب والإيثار في أعلى وأبهج صوره .

انتظام الحجيج في صفوف هائلة، وغياب الخلافات والنزاعات والشقاقات رغم وجود أسبابها، ومسبباتها، بل لا تكاد تسمع شجارا أو سبابا بين اثنين، كما ترى ذلك السلوك الحضاري الهادئ والمبارك، في كل المشاعر، يشعرك بحق أن هذه أمة عظيمة رائدة، ما وجدت إلا لتكون قائدة للبشرية إلى الحق والخير والهدى ، وأن ليدها مخزونا هائلاً من القيم والأخلاق والمثل الحضارية ما يجعلها خير أمة أخرجت للناس.

في هذا المؤتمر السنوي العالمي المنقطع النظير، يعلن المسلمون أنهم أمة واحدة، وأنهم خير أمة، وأنهم أمة العلم والحضارة والسلوك، وأنهم أمة الرسالة الخالدة، وأنهم أمة الهدى والنور، الذي تفتقر إليه كل البشرية.

أكثر من لفت نظري من مشاهدات في أيام منى والرمي، ذلكم الكرم المبارك، لأهل مكة، حيث لا تجد في أي مشعر من مشاعر الحج جائعا أو عطشانا، وليس بغريب على أهل مكة المكرمة مثل هذا السلوك، فهو سلوك مألوف، دوما عن أهل مكة، سيما في رمضان وذى الحجة، ففي رمضان يتحول الحرم المكي والمدني بل وكل أرض الحرمين الممتدة طولا وعرضا من البحر إلى الخليج، إلى مائدة واحدة يفطر عليها ملايين الحجاج والمعتمرين والزوار، حيث يتسابق المحسنون لنيل الأجر والثواب من الله الكريم، ممتثلين لأمر الله تعالى : (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا) .

وليس هذا شأن بلاد الحرمين، فحسب، بل هو شأن كل القبائل والبلدان العربية، وإن كان لبلاد الحرمين نصيب الأسد، من هذا الكرم والسخاء العربي النادر.

أذكر أنني كنت على مقربة من الجمرات واحتجت لشربة ماء، فجلست بجوار كرتون فتحسسته فإذا هو مليء بعلب الماء المبرد، فشربت حتى ارتويت، كنت أحرص أنْ أصرف بعض المال من جيبي ابتغاء الأجر والثواب، فكنت كأنما أسمع مناديا يناديني قائلا، \"أنت أنت في ضيافتنا\".

وبالمناسبة لا يفوتني أن أسجل هنا ضجيج كثير من الحجاج من تلكم الأموال الباهضة التي تفرضها عليهم بعض وكالات الحج، المتفاوتة ما بين 6 – 12 ألف ريال، وهو مبلغ كبير يثقل الكاهل، إلا أنه ورغم هذه الأموال الباهضة جدا إلا أنّ الحجيج يدفعونها بسخاء نفس تقرباً إلى الله الكريم ذي المنن، وكلهم دعاء أن يخلف الله عليهم بخير، وأن يتقبل منهم أعمالهم ونفقاتهم في سبيله .

ومما ينبغي ذكره، من الكرم المكاوي في هذا السياق، أنّ بعض البيوت المكاوية فتحت بوفيه على طرق الحجيج – بوفيه دائم ومستمر طوال أيام الحج- تجد في هذا البوفيه كل أنواع التمور والطعام والشراب، بل يذهب العمال إلى الشوارع والطرقات يدعون الحجيج لزيارتهم وتناول بعض هذه الوجبات، ويتوسلون بهم لزيارة هذا البوفيه أو ذاك، ليناولوا بهم أجر دعوة الحاج، فجزاهم الله خيرا وبارك فيهم وفي جهودهم وأعمالهم.

أيضا مما يسرك ويسر خاطرك تعامل رجال الأمن مع الحجيج بلطف وابتسامة كريمة، سيما مع الضعفة من الحجيج والمسنين والشيوخ، وسهرهم على راحتهم وخدمتهم، وتيسير كل سبل الراحة لهم، ولا تكاد تجد مشكلة في منى أو عرفات أو الجمرات أو داخل مكة أو خارجها، إلا ورجال الشرطة والأمن وفقهم الله، قد سعوا لحلها وتسخيرها إلى فرصة، وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنّا للغيب حافظين.

امتاز حج هذا العام بقدر كبير من الهدوء والحب السلام وقلة الزحام مع أجواء رائعة من الأمن والطمأنينة، والرياح المعتدلة المناسبة للأجواء الروحانية للمبيت بمنى، وحتى لا يظنن بي القارئ العمى فقد شاهدت بعض السلبيات، إلا أنّ الواجب أن تطوى ولا تروى، لندرتها ولشذوذها، والغالب ولله الحمد هو الخير والبركة، والأحكام إنما تجري بالغالب، وأما النادر فلا حكم له وبالله تعالى التوفيق، والله تعالى نسأل أن يتقبل من الحجاج حجهم وسائر أعمالهم وأن يعيدهم إلى أهليهم وذويهم بخير وعافية وغفران للذنوب .

ودّعت بيت اهاج الحرام وكلي شوق إلى البقاء فيه وزيارته، والشرب والتضلع بماء زمزم على أمل أنْ ألقاه بعد نحو شهر، بإذن أهيه في الاجازة النصفية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

عودة إلى كتابات
الأكثر قراءة منذ أسبوع
الأكثر قراءة منذ 3 أيام
إحسان الفقيه
إستشهاد السنوار: كيف يتحول الصامتون عن الانتهاكات الإسرائيلية إلى شامتين؟
إحسان الفقيه
الأكثر قراءة منذ 24 ساعة
د. محمد جميح
شجاعة السنوار بين فلسفتين
د. محمد جميح
كتابات
د.عسكر بن عبد الله  طعيمانجدلية الغدير
د.عسكر بن عبد الله طعيمان
هادي في وادي آخر ..
رجاء يحي الحوثيرجال بلا ضمير
رجاء يحي الحوثي
مشاهدة المزيد