موسم الحزن والعزاء
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 11 سنة و 7 أشهر و 6 أيام
الإثنين 15 إبريل-نيسان 2013 11:47 ص

وكأن الأحزان تأبى إلا أن تأتي دفعة واحدة عبر ما يتواتر إلى مسامعنا من أخبار عن حوادث مؤلمة تودي بحياة الكثير من الطيبين في هذا الوطن المرزوء بما يثقل كاهل الزمن من الآلام والمتاعب المتواصلة.

ومع إيماننا بحتمية الموت لكل كائن حي إلا إن أكثر من خبر حزين مما حمله لنا هذا الأسبوع عن حوادث وفاة معظمها جاء لحوادث عارضة كان يمكن تفاديها لولا الاستخفاف بحياة الناس وانصراف من يديرون شئوننا بقضايا يرونها أهم من حياة البشر الذين هم الثروة الأغلى والأثمن في كل بلدان العالم المتحضر.

جاءنا خبر وفاة المناضل د. أحمد الكازمي وهو شخصية وطنية من قليلي الحديث عن أنفسهم، عاصر زمن الثورة المسلحة ورافق فيها وبعدها كبار القادة من سالمين ومطيع وعلي ناصر وعلي عنتر إلى مقبل والصداعي وجاعم صالح وعبد العزيز عبد الولي.

انكفأ د الكازمي الذي تعرفت عليه في جمهورية بلغاريا أثنا الدراسة الجامعية وكان حينها يحضر لشهادة الدكتوراه في الفلسفة، انكفأ بعد اتساع الساحة بادعاء الوطنية والنضالية، وابتذال مفردة المناضل حتى أفرغت من معناها، وانصرف لفترة معينة للدفاع عن حقوق الإنسان لكن المرض أقعده طويلا حتى وافته المنية في الأسبوع الماضي ويبدو أن السلطات لم تعر هذا المناضل أي اهتمام وإلا كان يمكن إرساله للعلاج في أي دولة بكلفة قد لا تصل إلى ما يتقاضاه عتل من عتاولة الفساد في أقل من أسبوع،

توفى الفنان المبدع والعازف الرقيق والملحن الجميل علي سيود ابن مدينة الكود بأبين، بمرض الفشل الكلوي وهو المرض الأكثر انتشارا في اليمن بسبب التلوث البيئي وغياب الصحة الوقائية، . . .علي سيود ليس فقط مجرد عازف عود لكنه يعزف على الأكرديون والبيانو والكمنجة والأورج، وهو فوق هذا مغنٍ ملحنٌ رائع له الكثير من الألحان التي تغنى بها الكثير من فناني أبين، علي سيود رجل ودود خجول متواضع لم أسمع قط إن صدر منه ما يسيئ إلى أحد حتى عندما يكون مظلوما، لكنه كان مخلصا للفن والإبداع ووفيا مع محبيه، وطالما ترددت ألحانه ومعزوفاته كثيرا على ألسنة محبيه في أبين وخارج أبين، لم يلتفت المسئولون عن الثقافة والفن لحالة الفنان علي سيود وهو يصارع المرض، حتى غادر الدنيا تاركا لنا سجلا حافلا بالإبداع والعطاء الذي سيظل خالدا في ذاكرة الأجيال.

في حادثة عارضة توفى المهندس طيار صالح محمد بن فليس اليزيدي، وهو ما يزال في أوج القدرة على العطاء والإبداع، . . تعرفت على صالح في المرحلة الثانوية في منتصف سبعينات القرن الماضي وكان قائدا طلابيا شبابيا محبوبا فضلا عن إنه طالب متفوق في دراسته، بعد تخرجه من دراسة الطيران في القاهرة وأديس أبابا ثم موسكو ولندن تدرج المهندس صالح في مهمات عمله في اليمدا حتى تولى مهمة المدير العام للشئون الفنية وكان مع رفيقه المهندس طيار عبد الله علي وآخرين وراء النجاحات الرائعة التي حققتها الشركة قبيل الاستيلاء عليها ودمجها في اليمنية لتتحول إلى ساحة لنهب الناهبين وعبث الفاسدين.

 صالح فليس يتمتع بحب كل من تعرف عليه فابتسامته الودودة تصاحبه أينما كان حتى في لحظات الغضب.

بعد 1994م توقف صالح (أو أوقف) عن عمله حتى انتقل للعمل في إحدى شركات القطاع الخاص في المملكة العربية السعودية الشقيقة ليعيل أسرته ويواصل ارتباطه بمهنته التي أحبها وأتقنها ونذر لها حياته، حتى وافاه الأجل يوم 12 أبريل لينتقل إلى جوار ربه وهو ما يزال قادر على تقديم المزيد من العطاء والإبداع في بلد لا تحترم معطاء ولا تكرم مبدع.

كان خبرا مزعجا ذلك الذي نقل إلينا نبأ وفاة الأخوين الشيخ جمال ناصر سعيد (النقيب) والعقيد مانع محمد الجمل، الذين ذهبا ضحية حادث مروري على طريق أبين ــ عدن.

 

تلقى الشيخ جمال ناصر التعليم لابتدائي في مديرية رصد ثم سافر إلى السعودية ليتوسع في التعليم الديني في مكة المكرمة وبعد عودته إلى الوطن انخرط في النشاط الدعوي والحقل التربوي، اشتغل في التعليم الثانوي في مديرية رصد وزنجبار كما نشط في المجال الخيري تاركا بصمات أثنى عليها من يعرفه ومن لا يعرفه، بعد انطلاق الثورة الجنوبية السلمية كان الشيخ جمال أحد نشطائها وظل خطيبا أسبوعيا في ميادين المنصورة والمعلا وكريتر كما إنه أحد مؤسسي جمعية النهضة الجنوبية أحد مكونات الحراك السلمي مع زميليه الأستاذ الداعية عبد الرب السلامي والأستاذ التربوي عبد ربه مريبش وآخرين، وهو أيضا عضو في الهيئة الشرعية الجنوبية.

في هذه الحادثة توفى مع الشيخ النقيب، العقيد متقاعد مانع الجمل ، ومانع هو من تلاميذ مدرسة السبعينات والثمانينات، تلقى تعليمه في جعار وزنجبار ثم ابتعث إلى كوبا في دورة عسكرية ليعود بعدها قائدا في الميليشيا الشعبية التي تم لاحقا دمجها في القوات المسلحة واضطلع كوادرها بأدوار وطنية رائعة في الدفاع عن الوطن ونشر ثقافة الانتماء إليه والوفاء له.

مثل كل الكوادر الجنوبية الكفؤة أحيل العقيد مانع بعد 1994م إلى التقاعد، أو الاستبعاد المبكر ليمكث في منزله مثل آلاف الكوادر الجنوبية المقصية حتى يوم وفاته وكان ما يزال في سن قادر على العطاء في بلد لا يبحث قادتها عن العطاء وأهله.

كل هذه الحوادث توالت بعد أن جاء نبا اغتيال الشخصية الاجتماعية والقائد العسكري السابق، الشيخ جمال سعيد عثمان الكلدي، الذي جرى اغتياله عندما كان يحاول إصلاح ذات بين متنازعين في وادي تلُّب بمديرية لبعوس، وكان اغتياله علامة على بلوغ التهور والاستهتار مداه وهو ما جاءت لنا به دولة 7/7 التي غيبت النظام والقانون وأحلت محلة قانون القوة وعرف القبيلة،. . . كان الشيخ جمال قد تفرغ لفض النزاعات المتكاثرة في مناطق يافع بعد أن تخلت السلطة عن واجباتها وألغت النظام القضائي وحولت رجال الأمن إلى موظفين بائسين يبحثون عن مصدر معيشتهم بدلا من التفرغ لتثبيت الأمن والاستقرار، وبعد أن فقد عمله العسكري وأحيل إلى "حزب خليك بالبيت"، تفرغ الشيخ جمال لفض النزاعات بين المواطنين ونجح في كثير منها، لكنه دفع حياته ثمنا لمساعيه النبيلة وذهب ضحية بعض المتهورين الذين لم تزل السلطة عاجزة عن الكشف عن هويتهم.

رحم الله د أحمد الكازمي والفنان علي سيود والمهندس طيار صالح فليس والشيخ جمال النقيب والعقيد مانع الجمل والشيخ جمال الكلدي وأسكنهم جميعا فسيح جناته وألهم أهلهم وذويهم وأحبابهم الصبر والسلوان، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".

 خاطرة شعرية:

لله ما أعطى وما انــــتزعت        أقدارهُ مـــــــــــــــــنِّي بلا مننِ

وله ابــتـــهالاتــي وذاكــرتي        وتضرُّعي في السعد والحزنِ

فهو الكـــبير بكلِّ ما كبر ت        أرجاء هذا الـــــــكون من سننِ

وهو الـــــكريم بكلِّ مكرمة        وهو الرهان لـــــــــــكلِّ مرتهنِ

قد صاغ هذا الكون من عدمٍ        لولاهُ هذا الــــــــــكون لم يكنِ