الربيع وأحاديث الانفصال
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 11 سنة و 9 أشهر و 26 يوماً
الأحد 27 يناير-كانون الثاني 2013 12:44 م

صاحبت موجة «الربيع العربي» التي ضربت عدداً من الدول العربية خلال العامين الماضيين حالة من البحث عن الهوية أو التميز عن الآخر في إطار البلد الواحد، تماماً كما طرأت حالة من الحنين إلى ماضي ما قبل الدولة القومية التي شهدتها فترة التحرر من المستعمر الأجنبي في المنطقة، كما برزت ظاهرة الأعلام التي سبقت العهد الذي خرج عليه المنتفضون. ففي ليبيا تظهر بين الحين والآخر دعوات إلى إقليمي بنغازي وبرقة، وقبلها رفع الثوار علم الملكية التي حكمت البلاد قبل انقلاب القذافي، وأصبح هو العلم الوطني لليبيا ما بعد القذافي، وفي سوريا رفع الثوار علم ما قبل البعث، مع ارتفاع وتيرة الصوت الكردي المختلف، ولا تزال الحالة السورية في صيرورة مستمرة دون أن تنبئ عن تموضع نهائي لها، وفي اليمن ظهرت بمناطق في جنوب البلاد الأعلام الشطرية للجنوب، التي ترمز لدولة ما قبل الوحدة اليمنية، مع ارتفاع نبرة المطالبة بحل للقضية الجنوبية التي ترى بعض التوجهات في الحراك أن حلها يكمن في الانفصال. والشأن ذاته يمكن أن يلمح هذه الأيام في العراق إن جاز لنا أن نصف ما يمر به العراق الآن بفترة بداية ربيع عراقي، حيث ترتفع دعوات مواربة للتجزئة تحت شعارات طائفية هنا أو هناك في هذا البلد، مع رفع بعض الصور لرموز ما قبل عراق 2003 في بعض الحالات في محافظات الشمال والغرب، ناهيك عن مطالب الأكراد التي تتكرس يوماً عقب آخر بكيانهم المستقل.

ظاهرة عجيبة تستحق وقوفاً مطولاً أمام تعقيداتها لفهم دوافعها وطبيعتها ومآلاتها مما ليس بوسع مقالة هنا أو هناك أن تقوم به.

لا شك أن تراخي القبضة الأمنية لأنظمة ما قبل الربيع في الدول التي ضربها الربيع كان له دور في بروز هذه الظاهرة، غير أن «الرخاوة الأمنية» التي صاحبت الربيع ليست المحرك الأول لهذه الظاهرة، بقدر ما هي دليل عليها، في حين تشكلت خيوط الظاهرة في مديات زمنية متباعدة قبل أن يحرق البوعزيزي جسده إيذاناً باندلاع موجة النار في الجسد السياسي والجغرافي العربي من تونس إلى صنعاء. وإذا كان من غير المنطقي القول إن احتراق البوعزيزي هو العامل الأساسي لموجة النار التي سرت من تونس إلى غيرها من بلدان الربيع، فإنه لا يمكن كذلك القول إن تراخي الأجهزة الأمنية كان السبب وراء الدعوات إلى الانفصال ورفع الإعلام السابقة. لم تكن نار البوعزيزي ولا الرخاوة الأمنية إلا إشارة البدء لما تم تشكله على مراحل متفاوتة قبل العامين الماضيين بزمن بعيد. ومع أن تراخي قبضة الأنظمة لم تكن المحرك لمحاولات الانفصال، إلا أنها أتاحت الفرصة للمكبوتات الداخلية أن تظهر، كما أتاحت الفرصة لدخول عناصر أخرى كانت بعيدة أو مبعدة طوال عقود بالدخول إلى إطار الصورة، مما مكن من سماع أصوات مغايرة ورصد مواقف مختلفة. عاد مبعدو القذافي بما لديهم من رؤى وثارات، وآلام إلى ليبيا، وتكلم مضطهدو البعث السوري من العرب والكرد، كما ارتفعت نبرة مضطهدي المالكي وحزب الدعوة في شمال وغرب البلاد، ورجع إلى اليمن من كانوا خارجها إبان فترة الرئيس السابق، واختلطت الأوراق والأصوات والصور، وبرزت أصوات التجزئة والبحث عن هوية مغايرة، وكيان جديد، وأعلام قديمة، وأوطان جديدة.

لقد عملت الأنظمة التي حكمت بلدان الربيع على إفراز هذا الواقع بقصد أو من دون قصد، بعدد كبير من السياسات الخاطئة، والصراعات التي كانت تعمل على إذكائها من أجل البقاء في الكرسي، والاستئثار بالثروة والسلطة، الأمر الذي نمى شعوراً بعدم الانتماء للوطن ذاته أو القيم ذاتها أو حتى الجغرافيا والتاريخ ذاته. وبشكل آخر عندما اختصرت الأوطان في الأنظمة، واختصرت الأنظمة في زعاماتها أصبح الوطن مجرد لمعان نياشين، وهذيان ألسنة لم تعد تمت إلى واقع الناس، ومعاناتهم اليومية، واحتياجاتهم الأساسية. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تخرج فئات من المجتمع تنادي بالنكوص عن قيم استمر تلقينها للجماهير على مدار ستة عقود، ومثلت طوال الفترة الماضية ثوابت لا يجوز الاقتراب منها، ناهيك عن المساس بها.

ويكفي في ذلك أن نعلم أن فصيلا يمنيا جنوبيا - على سبيل المثال - بدأ يتنكر حتى «ليمنيته» رافعا اسم كيان أنشأته بريطانيا قبيل خروجها من جنوب البلاد بـ8 سنوات فقط في محاولة يائسة للبقاء بعد توحيد سلطنات الجنوب تحت مسمى «الجنوب العربي» الذي أنشأت له بريطانيا حكومة اتحادية في عدن عام 1959. وهو الذي لم يكن يشمل حضرموت والمهرة، وسقط عام 1967 بعد رحيل القوات البريطانية من عدن، وإعلان الاستقلال. في نزعة تتناسى أنه حتى قبل الوحدة في اليمن كانت دولة الجنوب تسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وأن تسمية اليمن كاتجاه جغرافي تعني الجنوب أكثر مما تعني الشمال. لسنا هنا بصدد مناقشة العودة لهذا الكيان والتخلي عن الهوية في حد ذات الفعل، بل نحن بصدد التراكم الذي أدى إلى ذلك الفعل، ولسنا هنا بصدد التبرير للفعل غير المنطقي وغير السليم، غير أن عدم التبرير لهذا الفعل لا يعني السكوت عن تراكم عوامل إفرازه، وإخراجه إلى حيز الممارسة، دون تبرئة سلوك بعض الساسة الانتهازيين الذين صبوا مزيداً من النار على زيت هو أصلاً ملتهب، وتدثروا بعباءة العمل لصالح فئات بعينها مضطهدة، وأعادوا إنتاج لغة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، على أمل أن الذاكرة القصيرة ستسعفهم بشيء من نسيان الناس لماضيهم الذي أسهم في إفراز ما يحاولون اليوم أن يكونوا أبطالاً في محاربته.

قبل أيام تلقيت اتصالاً هاتفياً من معارض يمني جنوبي يقيم في بريطانيا، يخبرني عن أحد القيادات المعارضة التي ظهرت مؤخراً تقود جموعاً من الشباب في محافظة عدن وهم وراءه يهتفون «بالروح بالدم، نفديك يا..». مرددين اسمه، يقول محدثي، هل تعلم أن هذا القيادي «المناضل» اليوم كان له دور في حرب 1994 مع نظام الرئيس السابق ضد آباء أولئك الشباب الذين حملوه على الأعناق، وفدوه بالروح والدم.

وفي القصة تلخيص رامز لمأساة القضايا الكبرى التي عانت من توظيفها لصالح الدعاة إليها، مما جعل الناس يكفرون بها، غير أن هذا جزء من دلالة القصة، أما الجزء الثاني من الدلالة فيتمثل في أن الناس عندما يفيقون من حفل التنويم المغناطيسي التي مارسها عليهم دعاة القضايا الكبرى، لا يلبثون أن يسقطوا مرة أخرى أسرى قضايا كبرى جديدة لا تحتاج أكثر من سلوك انتهازي بلسان بليغ. ولن يتأتى للناس مخرج من هذه الإشكالية إلا بتذويب القضايا الكبرى في برامج عمل سياسية، تقوم على خدمة الناس، وتعلي من قدر الإنسان بما أنه هو القضية الكبرى، وهو هدف بقية القضايا الكبرى التي يدغدغ بها الساسة مشاعر الناس.

وفوق ذلك فإن العمل للإنسان بعيداً عن الشعارات وفلسفة القضايا الكبرى سيجعل الساسة أمام محك خدمة الإنسان، وسيجعل التنافس فيما بينهم على أساس برامج العمل، لا على أساس من منهم أعلى صوتاً في جوقة الاستخفاف بعقول الجماهير. عندما نصل إلى هذه النقطة سنكف عن البحث عن هوية مغايرة، أو أوطان جديدة، ولن ترتفع رايات إضافية جهوية أو طائفية، ولن يهم الناس مذهب الحاكم أو جهته ما دامت حقوق الإنسان مكفولة. وعودة لحكايات الانفصال الرائجة في موسم الربيع، فإنه يجمل تلخيص المشهد بالقول إن كل ما يفعله اليوم دعاة الانفصال هو أنهم استبدلوا قضية كبرى (الانفصال)، بقضية كبرى أخرى (الوحدة)، وهم في رفعهم للقضيتين في الأول والأخير، إنما يوظفونهما لمصالحهم السياسية لا لمصالح الجمهور الذي تعود على حملهم على الأعناق بذاكرة شعبوية لا تخيب آمال الساسة في سرعة نسيانها.