ديَن الشيطان الرجيم!
بقلم/ ناجي منصور نمران
نشر منذ: 12 سنة و 6 أشهر و 22 يوماً
الأحد 29 إبريل-نيسان 2012 06:12 م

مما لاشك فيه أن لغة الضاد لغة عظيمة تفردت بالبلاغة والبيان ويكفيها شرف أن المولى عز وجل قد إختارها من بين سائر اللغات لتكون لغة القرآن الكريم ،الأمر الذي يحتم علينا جميعاً الإهتمام بها وحفظها من الضياع والإندثارمن خلال القراءة المستمرة لأدب العرب وأشعارهم ،ومماشأنه تقويم اللسان وتهذيبه، وعلى الرغم من تواضع إمكاناتي اللغوية كوني لست متخصصاً في علوم اللغة العربية أو بالأحرى لم أحظ بشرف دراستها كما يفعل أربابها من المتخصصين مما يفقدني الدراية الكافية بكثير من مصطلحات الفصحى ،إلا أن لدي الحد الأدنى من الشغف وحب الإطلاع تجاه لغة الضاد ،والذي يقودني متى ما سنحت لي الفرصة إلى أن اطفق باحثاً بين جنبات قواميسها القيمة والكتب والمجلات لأستزيد منها عذب الكلام ، وأغترف بقدر ما أستطيع من بحور المفردات والمعاني، وفي طريقي لإشباع تلك الهواية من خلال تصفح مجلة العربي الغراء في أحد أعدادها القديمة إستوقفني مقالاً رائعاً لأستاذ اللغة العربية الدكتور/ فاضل السامرائي تناول فيه بنوع من الإسهاب مدلولات الكثير من مصطلحات العربية ومعانيها المختلفة مستدلاً تارة ببعض الأمثلة الواردة في أشعار العرب وأحاديثهم وتارة أخرى مستخدماً بعض القواميس اللغوية كالقاموس المحيط ومختار الصحاح في تبيان ماهية ومدلولات تلك المصطلحات،موضحاً كيف أن القليل جداً منها لايزال يُستخدم بالشكل الصحيح في بعض المجتمعات العربية في عصرنا الحاضر،في حين طغت اللهجات المحلية والدارجة على اللغة الفصحى في معظم المجتمعات وأصبحت تهددها في مقتل ، وقد ساق السامرائي في ثنايا ذلك المقال الكثير من المصطلحات المستخدمة في العالم العربي أيامنا هذه، وقد لفت إنتباهي منها مصطلحان إثنان متلازمان في كثير من الأحيان عند إستخدامهما ،وهما (القضى والسلف)، وعند مطالعتي لمختار الصحاح وجدت ما يتفق مع الإستخدام الشائع لهما بين العامة، ففي باب القاف وجدت للمصدر (قَضَى)بفتح القاف والضاد العديد من المعاني كان من بينها الأداء والإنهاء فُيقال(قَضَى فلان دينه)ويُقال أيضاً(اقتَضَى فلان دَينَه)و(تقاضاه) إلخ...وكذلك في باب السين وجدت للسلف معاني نعرفها جميعاً ،منها ما يُقال عند الإقتراض (إسْتَسْلف منه دراهم) و(تَسَلَّفَ فأسْلَفَه) وغيرها من المدلولات الأخرى، وهنا نجد أن عامة الناس لا تذهب بعيداً عند إستخدام تلك المصطلحات عن المعاني آنفة الذكر، فتجدهم يستخدمون المصطلح الأول(القضى) عند تأدية الدين وذلك عندما يدفع المدين ما عليه للدائن من دين، لذا يُقال أن المدين قضى الدائن دينه أي أدى ما عليه ودفعه له،في حين يُستخدم مصطلح السلف عند الإقتراض فيُقال عند العامة إستلف فلان من فلان مبلغ من المال. ما يهمنا هنا- أعزائي القراء- هو نوعية ذلك الدين فهو بيت القصيد ومحور الحديث!

بكل تأكيد سيتبادر إلى الأذهان المال سواءً كان النقد أو السلع العينية، ولكن واقع الحال - وتحديداً في اليمن- يقول أن ثمة إستخدام آخر قد يتفرد به مجتمعنا عن سائر المجتمعات العربية الأخرى ،إستخدام يؤكد أن هذه المصطلحات ليس حكراًعلى دين النقود والسلع فقط ، فبالإضافة إلى إستخدامها في البيوع والتجارة هنالك نوع آخر من الديون المتعارف عليها في المجتمع اليمني والتي لا تمت للأوراق النقدية والمالية بصلة يكثر فيها إستخدام مصطلحي القضى والسلف وتلاقي رواجاً كبيراً في أغلب محافظات الجمهورية.

فهل حزرتم ماهية ذلك الدين؟ إن الدين الذي نعنيه هنا هو دين الدم !

نعم دين الدم، دين وحداته عدد أفراد الرجال القتلى والمصابين بدلاً عن الوحدات النقدية في المنازعات والمشاكل التي تنشب بين الأفراد أو القبائل في المجتمع اليمني فمن قتل شخص ما فكأنما استلف ذلك الرجل من قبيلته ،ولذا أصبح لزاماً عليه الإستعداد للسداد إن عاجلاً أم آجلاً وبالتالي تصفية ذلك الدين وإقفال الحساب، ولذا فلا مناص من دفعه وتحمل تبعاته وسواءً كان دفع الفاتورة من الشخص المدين(القاتل) شخصياً أوفي الغالب-للأسف الشديد- من أبناء عشيرته لأنهم بالطبع يصبحوا كلهم مدينيين أمام الدائن(صاحب الدم)، وعملاً بالمثل الشعبي القائل(الطارف غريم)،أوكما يُقال(إن لقيت الغريم ولا ابن عمه)، والذي إن حدث مثل ذلك الأمر الذي يقدم فيه أولياء الدم على أخذ ثأرهم بأنفسهم يُقال عنهم في هذه الحاله أنهم قد (استقضوا) بمعنى تقاضوا ما لهم من دين على الطرف الآخر وأخذوا بثأرهم.

ما يحز في النفس أن غالبية تلك الأعمال الرعناء والتي لايقرها دين ولا خلق، يكون الضحية فيها الأبرياء،ففي الغالب من يقوم بالسلف لايدفع الثمن ومن يسدد الفاتورة في معظم الأحيان هم أشخاص ليس لهم ذنب سوى إنضوائهم تحت لواء هذه العائلة أوتلك القبيلة ،بل في بعض الحالات كل ما أرتكبوه من إثم هو تواجدهم بمحض الصدفة في مكان إرتكاب الجريمة لحظة تنفيذها مع أنهم قد لايمتوا بصلة لا لهذا الطرف ولا لذاك ،وكم سمعنا ولانزال نسمع عن حالات ثأر كثيرة لضحايا من الأطفال والنساء والرجال شاءت القدرة الإلهية أن يلقوا حتفهم بمجرد تواجدهم بالقرب من الهدف بجوار مطعم أو في سوق إلخ،والذي إن حدث فهو لايعدو عن كونه قتل من باب الخطأ يمكن معالجته بإرضاء أولياء الدم بطريقة أو بأخرى ويا دار ما دخلك شر،وتحضرني هنا قصة محزنة مضحكة في نفس الوقت يتداولها الناس في اليمن لقبيلة يمنية شنت هجوماً على قرية قبيلة أخرى وقد أسفر الهجوم عن مقتل مدرس مصري بالخطأ في قرية القبيلة المُعتدى عليها، فما كان من القبيلة الأخيرة إلا أن اقدمت هي الأخرى على قتل مدرس مصري من القرية المعتدية ليكون الحساب مدرس بمدرس وبالتالي راح ضحية الخلاف مدرسين لاذنب لهم .

إن طرحي للمشكلة هنا أعزائي القراء ليس وليد اللحظة،فالمعضلة تكاد تكون شبه يوميه ونعيشها بين الفينة والأخرى ولعل آخر قضية تناولتها بعض الصحف والمواقع الالكترونية هي جريمة نكراء بحق الإنسانية ندينها ونستنكرها بغض النظر عن الدوافع التي تقف وراء الإقدام عليها،جريمة تم إرتكابها في قلب العاصمة صنعاء يوم الأحد الموافق 26 فبراير من العام المنصرم راح ضحيتها خمسة أشخاص ومن أسرة واحدة بسبب قضية ثأر بين قبيلتين، وهنالك غيرها الكثير والكثير من القضايا والتي لو نفتح الباب لسردها وسرد مآسيها لما انتهينا، والمحزن أن هذا الأمر يتم على مرأى ومسمع من الجهات المختصة وفي قلب العاصمة صنعاء وعواصم المحافظات الأخرى.

 إن تناولنا لهذا القضية يستوجب علينا طرح تساؤل منطقي حول من يتحمل مسئولية هذه الممارسات، ومن هو المسئول عن تكريس مثل تلك الثقافة بين ابناء الشعب؟

هل النظام يتحمل كل المسئولية؟ أم المجتمع؟ أم أن النظام والمجتمع يتحملان معاً هذه المسئولية؟

لكي نعرف فعلاً من المسئول علينا مناقشة الأسباب الكامنة وراء إستفحال ظاهرة الثأر في مجتمعنا حاولت تلخيص البعض منها فيما يلي:

1-غياب القضاء المستقل العادل والنزيه ،والذي من صوره تأخر البت في قضايا الناس لسنوات عديدة ودخول القضايا السياسية على الخط علاوة على إنتشار الرشوة والمحسوبية في أروقة المحاكم إلخ، ،ولذا نجد أن الكثير من أصحاب القضايا يتنقل بين المحاكم لسنوات عديدة ويخسركل ما يملك في سبيل نيل حقة بالطرق الصحيحة هذا إن هو طال ذلك الحق ،فنلاحظ أن البعض منهم وعلى الرغم من خسارة جهده وماله في ملاحقة الغريم يعود بخفي حنين فلا هو نال مبتغاه ولاهو تجنب الخسائر،فماذا ننتظر منه في مثل هذه الحالة إلا أن يتحول مكره إلى وحش مفترس يأخذ حقه بيده ،وفي كثير من الحالات هنالك من يتعظ من تجارب الآخرين الذين مروا على المحاكم ولم يصلوا إلى نتيجة فتجدهم لايطرقون أبواب القضاء إطلاقاً لإيمانهم بعدم جدوى ذلك المسلك ، والنتيجة الطبيعية لذلك عزوف المتخاصمين عن اللجوء للقضاء والبحث عن حلول أخرى قد يرونها أسرع في فض المنازعات منها الإحتكام للأعراف القبلية والتي تخالف الشرع أحيانا في طريقة تناولها لحلول تلك المشاكل، بينما يحبذ البعض الآخر أخذ حقوقهم بالقوة والدخول بالتالي في دوامة الثأر والعنف ، ولهذا فإنني بقدر ما أمقت تلك العادات والممارسات الخاطئة قد أجد نفسي متعاطفاً في كثير منها مع من يلجأ إلى فعل ذلك الشئ على الرغم من بشاعته، وقد ألتمس له العذر خصوصاً إذا ما رأى مرتكب الجريمه حراً طليقاً يسرح أمام عينية دونما عقاب أو حتى تحريك ساكن من الجهات المختصة.

2-غياب الأمن من حيث عدم القدرة على ضبط المجرمين وتنفيذ الأحكام كون من يرتكب الجريمة يدرك في كثير من الأحيان أنه سيفلت من قبضة العدالة بطريقة أوبأخرى خصوصاً إذا كان يقف وراءه متنفذين لهم اليد الطولى في الدوائر الأمنية والقضائية، وهو ما يشجع الكثير من الناس على إقتراف مثل تلك الجرائم لأتفه الأسباب، هذا ما يتعلق بالقاتل، وأما صاحب الثأرهو الآخر فيلجأ إلى أخذ ثأره بيده نتيجة لنفس الأسباب السابقة، وبالتالي يضطر إلى معالجة الجريمة بإرتكاب جريمة أخرى لاتقل عن سابقتها بشاعة.

3- جهل المجتمع وخصوصاً في المناطق الريفية،والتأثر ببعض العادات والتقاليد الخاطئة أهمها العصبية والمناطقية.

4- ضعف الوازع الديني لدى بعض أفراد المجتمع. 

5- إنتشار السلاح بين الناس بشكل كبير،وهو مايسهل إرتكاب الجريمة. 

فهل عرفت من المسئول عزيزي القارئ عن إنتشار دين الشيطان؟

أعتقد أنك قد لاتختلف معي على أن جل المسئولية تقع على عاتق الدولة ممثلة بأجهزتها الأمنية والقضائية فلو أنها طبقت النظام والقانون وجعلته سارياً على الجميع بلا إستثناء لما وجدنا مثل تلك المشاكل من الأساس ،بل إن البت في كثير من القضايا الصغيرة قبل إستفحالها يمنع تطورها ويساهم في خفض نسبة الجريمة في المجتمع، هذا إلى جانب كون المجتمع بالطبع يتحمل جزء لابأس به من المسئولية نظراً للجهل وضعف الوازع الديني، أما آن الأوان أن نجد القضاء العادل، أما حان الوقت أن تبت المحاكم في قضايا الناس بسرعه وأن يتم محاسبة القضاة المتخاذلين، وأن تقوم الأجهزة الأمنية بواجباتها المنوطة في ضبط المجرمين ومنع إنتشار السلاح بين الناس، فكفانا تكريساً لمارسات ممقوته أكل عليها الدهر وشرب و كلما جنيناه منها الخراب والدمار.