رمضان الثوري
بقلم/ مرعي حميد
نشر منذ: 13 سنة و شهرين و 27 يوماً
الخميس 04 أغسطس-آب 2011 09:57 م

حينما تندلع الثورة فهي تُصاعد مدها ووهجها الثوري ويصبح على الواقعين في محيطها أن يُكيفون أوضاعهم وأحوالهم معها لا أن تتكيف الثورة مهما امتد زمنها ،إنّ الثورة فعل وطني يمتد في المكان والزمان حتى يتحقق النصر المبين ، إنّ الثورة لا تقبل التراخي ولا التوقف ولا التراجع بل هي تيار زاحف كاسح ماض بثبات يزيد ومكاسب تتضاعف لصالح الوطن المفدى.

ويبقى من الزمان رمضان مميزا، وحينما يُطل و يُهل والفعل الثوري في استعاره وهدير كفاحه العبقري فان رمضان يلقي بظلاله الندية على ساحات الفعل الثوري ويزيده بهاءً وتأهلاً لنيل الثوار فرصة توفيق الله وتأييده فهو ينصر المؤمنين الصابرين (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وكان رمضان وعلى الدوام شاهد على انتصارات امتنا الإسلامية بل كانت غُرة انتصاراتها بدر الكبرى في رمضان ولحق بها فتح مكة وعين جالوت وغيرها من الفتوحات والانتصارات.

وبهذا يمثل رمضان محطة تُدني أهل الإيمان من ساعة النصر؛ لأنها في ذات الوقت تقربهم من اللحظة التي يصبحوا فيها أولى بنصر الله لما يشهد منهم من تقوى وقُربات ولما تُحدثه طاعاتهم المتزايدة في موسمها من زيادة في إيمانهم وبالتالي كذلك المزيد من الانغماس في معمعان المعركة والصبر والاصطبار ،كما أنّ دعاء الثوري الصائم يصبح في رمضان أكثر قبولاً لهذه العوامل مجتمعة.

في رمضان تشف أرواح المؤمنين وتتقوى صلتهم بمالك الملك الحي القيوم القدير القادر المُقتدر ذي الطول والفضل والإنعام والإكرام وذلك من خلال الانهماك في العبادات المتأكدات في رمضان على وجه التحديد، وذلك قدر ما أسعفهم وقت العمل الثوري و نتناول هنا أهم تلك العبادات المتأكدات في رمضان الفضيل والتي ينبغي أن يهتم بها كل احد ويشغل بها وقته في رمضان سواء من المنضوين في ساحات الفعل الثوري وميادينه أو عموم المسلمين في بلد الثورة أو بلدانها وفي غيرها من الأقطار والأصقاع في المعمورة:

الصيام منهل التقوى والمغفرة

لقد اوجب علينا الله تعالى الخلاق العليم الحكيم صيام شهر رمضان إيماناً به واحتساباً للأجر منه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) وقال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ..)، وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم - فيما عدا الشيخ والشيخة.

والغاية من الصيام كما تبينها الآية هي [التقوى] فقد شرع الله لنا الصيام لنكون من أهل التقوى، والتقوى هي ان يراك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك، وإنّ لأهل التقوى عند الله المنازل العليا، والصيام يغرس في الصائم صفة استشعار مراقبة الله له واطلاعه عليه في كل زمان وفي كل مكان واستشعاره لعلم الله بنيته التي محلها القلب وحاله وهو يصوم ،وكلما استشعر المسلم هذه الأمور كلما انسكب في قلبه المزيد من الإيمان واليقين بالله وبالتالي الحرص في سائر الشهور على ما يرضي الله خالقه ومولاه المطلع على حاله سره وعلانيته والبعد عن ما لا يرضاه محييه ومالك أمره ومُميته وحاشره يوم القيامة ومدخله إلى الجنة ان هو أحسن اوالى النار ان هو أساء ، إنّ هذه المراقبة توجد في الضمير حلاوة استشعار قرب الله وبالتالي حلاوة مناجاته ودعائه والتضرع إليه ولذا وجدنا آيات الصيام تتخللها آيات القرب والدعاء (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). ومن الذي يحصل على هذه الثمرة؟.. من صام رمضان مخلصاً لله ملتزماً بأخلاق الصيام في الليل والنهار فمن وقع في المحضور ليل الصيام فإنما هو يمسح ثمرة صيام نهاره فمراقبة الله واستشعار علمه واطلاعه عليه بالنهار تكون باقترافه ما لا يرضي الله قد اختفت وهنا نعلم كيف يحرص الشيطان ان يضيع على المسلم ثمار أعماله التعبدية، ولذا ينبغي للمسلم ان يفطن لهذا ويبادل عداوة الشيطان بعداوة، عليه ان يكون عنيدًا مع عدوه الحقيقي. إنّ الغالبية من الناس تحمل لبعضها العداوة لأنها نازعتها أمر من أمور الدنيا تعتقد بملكيتها له أو تحدتها في موقف من المواقف وأبدت عنادها لها, فما بالنا بالشيطان الذي ينازعنا أمر هو لنا بالتأكيد وهو أمر من أمور الآخرة التي يعظم ثوابها هناك وكل الطاعات هي من أعمال الآخرة فكيف يسمح ويتغافل لمن يريد ان يعيث في ما زرع وينتظر جناه وبالتالي فان إيقاظ القلب على هذه المعركة المستمرة في رمضان معناه إيقاظ القلب عليها في سائر شهور العام لأنها معركة لا تتوقف ما دامت الروح في الجسد وهذا كذلك يثمر عنه غرس فضيلة التقوى في الضمير وان تغرس هذه الفضيلة في القلب فهذا يعني حرص متزايد على طاعة الله وإيمان به متعاظم وفي ذات الوقت وهذا يندرج في ما سبق البعد عن إيذاء الخلق أو التعدي عليهم وظلمهم سواء بالاعتداء المباشر أو النيل من المال أو العرض وكفى بهذا فائدة من صيام رمضان ، يعيش المسلم في سلام و وئام مع الخلق و اصطلاح مع الخالق جل جلاله وتقدست أسمائه وبالتالي رضوان الله على هذا العبد ، ويتم هذا كله حين يفقه المسلم هذه المعاني التي يتضمنها صيام رمضان وهذه دعوة لنفعل ذلك ، وادعوك أخي الكريم للتأمل مجي هذه الآيات في ختام آيات الصيام (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). إنّ هداية الله الورادة هنا هي، إضافة إلى الهداية السابقة لشهر الصيام، فهي الهداية إلى هذه المعاني الغزيرة الفائدة، ومن ثم المطلوب منا ان نشكر الله الكبير المتعال الذي هدانا إليها كثمرة من ثمار فريضة صيام رمضان، يقول صاحب الظلال: (فهذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم. وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة . وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية ، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها. وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة. ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة. كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام: {لعلكم تتقون}..

وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس. وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه ، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير).

وكما يشير صاحب الظلال كذلك فان في الصيام (تربية الإرادة ، وتقوية الاحتمال ، وإيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية), وهذا يزداد كلما كانت ظروف الصيام أكثر شدة، وهاهو رمضان يأتي هذا العام في الصيف مما يعني مزيد من العطش وربما الجوع وسيكون في العام القادم أشد لأنه سيتوغل أكثر في السنة الميلادية بمقدار احد عشر يوماً ، وهكذا حتى يكون رمضان أول الصيف ، فتكون الثمرة التربوية ذات وقع أكثر على النفس والمجتمع . ولكن ورغم مشقة العطش سنجد ان فريضة الصيام تؤدى بسهولة ومن غير مشقة مصداقاً لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}..

ومع هذا ففي صيام رمضان مغفرة للذنوب جاء في صحيح الترغيب والترهيب للشيخ محمد ناصر الدين الألباني برقم 992 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

قال ابن كثير في معنى إيماناً و احتساباً "أي: يؤمن أن الله شرعه، ويحتسب عند الله ثوابه. قال الخطابي: قوله إيماناً واحتساباً أي بنية وعزيمة وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه طبية به نفسه غير كاره له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا ، يُقَال لَهُ : الرَّيَّانُ ، يَدْخُل مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، يُقَال : أَيْنَ الصَّائِمُونَ ؟ فَيَقُومُونَ ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ ، فَلَمْ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْل أَنْ يُغْفَرَ لَهُ.

وان من المطلوب منا شرعاً ان نؤدي الصلاة بخشوعها فيتذكر المسلم من يقابل في صلاته .. ومن يخاطب وكذلك ان يتدبر ما يتلوا الإمام أو ما يتلو هو في صلاة النفل.

وفي ختام هذه الفقرة أتساءل: ماذا لو رفع كل منا شعار لنفسه في نفسه يقول (فلان يريد هزيمة الشيطان).

قيام رمضان

للجسد غذاؤه وللروح غذاء غير انه مختلف، انه ذكر الله عز وجل ومحبته وطاعته وإنّ قيام الليل هو خير وانفع غذاء للروح بعد الفرائض ولذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((شرف المؤمن قيام الليل )) ، وفوق ان القيام خير وأروع غذاء للروح و تتعشّقه الروح المنيبة إلى الله فانه من قام رمضان بأداء صلاة التراويح إيمانا بالله وابتغاءً الأجر منه تعالى فقد قام رمضان إيمانا واحتساباً ومن فعل ذلك غفر له ما تقدم من ذنبه ، والغريب والمؤسف له ان بعض المصلين ينصرف من المسجد فور أداء صلاة العشاء للهو والحديث مع الرفاق وهم بهذا يخسرون خسارة كبيرة جداً جداً لا يكلفهم تجنبها سوى دقائق من ليل طويل ، وقد يقول البعض أنه يكفيه ان صلى العشاء في جماعة ولكن يا هذا ألا تسعى وتركض من اجل الظفر بالمزيد من متاع الدنيا وزهرتها ما بالك بمتع الجنة و الفرق بين الدرجة فيها والدرجة كالفرق بين السماء والأرض ، وما بالك لو استبدلت ذلك الوقت الذي تبخل به على صلاة التراويح ، فتقضيه بدلاً عنها على دكه أو مجلس على طريق أو وسط سوق ، بوقت تقضيه مع رفقائك في الجنة وأسواقها ، الم تسمع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من ترك لله شيء عوّضه الله خيراً منه).

ومع هذا فان من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ذنوبه ومن منّا بلا ذنوب ؟؟ ومن منّا لا يريد مغفرة ذنبه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وصححه الألباني: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).

القرآن جامعة اليقين 

القرآن هو جامعة اليقين بالله و بموعوده وبحقيقة الدنيا والإنسان والكون ،وما أحرانا و أجدرنا بالإقبال على تلاوته وتدبره وتطبيقه في حياتنا في رمضان وفي كل العام ، ولكن الإسلام قرن بين القرآن و رمضان فزاد من مكانة تلاوة وتدبر القران في رمضان ففيه تنزل القرآن ..قال الله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) قال الألباني في السلسلة الصحيحة - "أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان ، و أنزل القرآن لأربع و عشرين خلت من رمضان".

وفي رمضان ، لا غيره من الشهور ،كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتدارس اقران مع جبريل عليه السلام ، فمن حديث ابن عباس رضي الله عنه : وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن).

جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري: ويستفاد منه أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان هو لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية ويحتمل أنه صلى الله عليه و سلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزءا في جزء من الليلة والسبب في ذلك ما كان يشتغل به في كل ليلة من سوى ذلك من تهجد بالصلاة ومن راحة بدن ومن تعاهد أهل ولعله كان يعيد ذلك الجزء مرارا بحسب تعدد الحروف المأذون في قراءتها ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين لجاز أنه كان يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة ثم يعيده في بقية الليالي وقد أخرج أبو عبيد من طريق داود بن أبي هند قال قلت للشعبي قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أما كان ينزل عليه في سائر السنة قال بلى ولكن جبريل كان يعارض مع النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان ما أنزل الله فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء ففي هذا إشارة إلى الحكمة في التقسيط الذي أشرت إليه لتفصيل ما ذكره من المحكم والمنسوخ.

ومن المهم ان لانفرّط في نصيبنا من التدبر ونحن نتلوا كتاب الله وان لا يكون هم احدنا آخر السورة وان يكون قد تلى اكبر عدد ممكن من الآيات ولكن ان نتدبر القرآن مستجيبين لقول الله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، والحديث الذي رواه الإمام مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال : " أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم ؟ " فقلنا : يا رسول الله نحب ذلك . قال : " أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم ، أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين ، وثلاث خير له من ثلاث ، وأربع خير له من أربع ، ومن أعدادهن من الإبل».

وإنّ أكثر طرق التدبر تأثيراً على النفس وعيشاً في رحاب كتاب الله المسطور سواء كنت تالياً له او مستمعاً في صلاة أو في غير صلاة هي أن تتلو القرآن أو تستمع له وأنت مستشعراً أ نّ ما تقرءاه أو تسمعه هو بيان مباشر لك أنت العبد الضعيف من الله الحي القيوم القدير جبار الأرض والسماء خالقك ورازقك و مميتك و مدخلك الجنة أو النار بحسب عملك في الدنيا والقادر عليك في أي لحظة ان يصيبك أو يرزقك، و البيان القرآني يأتي في مشاهد متنوعة أحصيتها فوجدتها نحو 49 مشهداً (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وقد يُعينك على هذا قوتك التخيلية اللاإرادية الطليقة في المكان المحفور في عقلك الباطن و ذاكرتك القديمة في المكان الذي ترعرعت فيه.

وجميل جداً و بديع وتوفيق حسن لو خصص أهل العلم والدعوة دروس شهر رمضان وخواطره ومحاضرته في تفسير كتاب الله واستخراج ما بآياته من معان وظلال إيمانية وسلوكية ليحصل بذلك خير الخيرين الأجر الكبير للمصلين بحسب الحديث المار آنفاً ولنبقى في رمضان في أجواء القرآن وهو الجامع لكل ما يُراد طرحه وحث الناس عليه.

مع إيماننا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم « من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ؛ ولكن : ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف » قال الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 3327: (وإسناده جيد، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين)، ولكن على المؤمن أن يحرص على خير الخيرين وان يُسدد ويُقارب ولا يدع الخير يفوته .

في صلاتك.. كن مع الله

من أولى واجل ما يتقرب به المؤمن لمولاه الصلاة فرضاً ونفلاً ، و حريٌ بالمؤمن أن يكون مع الله وهو يناجيه في صلاته ويتلو القرآن، الصلاة صلة بين العبد وربه وهي معراج الأرواح إلى الحي القيوم ذي العرش العظيم ، ولما علم الشيطان هذا فانه يحرص على ان يُخرج المُصلي من حضرة ذي الجلال والإكرام إلى أوشاب الدنيا و عرصاتها و همومها ومشاغلها، يخرجه عن حضرة من بيده دنيا المصلي وشؤونها ويُسلمه إلى هذه الدنيا وهكذا يخرج من صلاته دون ان يكون مع الله فيها أو بعبارة أخرى دون هذه الكينونة ،وحريٌ بكل مؤمن ومؤمنة أن يسيقضاء على هذا الجانب في الصلاة بالخشوع فيها وان يكون حقاً مع الله في كل صلاته وهذا ليس مستحيلاً فقد وجهنا الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم بقوله: (استعن بالله ولا تعجز) وقال الله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ألا نجاهد أنفسنا وأهوائنا ونتذكر رحى المعركة التي تجري ونحن عنها غافلون.

دعوات مستجابات..

ما أحوج الثائر والثوار والثورة إلى الدعاء منهم ومن ممن هو متعاطف معهم و متضامن ومؤيد ،والدعاء شأنه عظيم ، ومن ذا الذي يستغني عن سؤال الله الغني المغني القدير المقتدر الناصر و النصير إلا مُعرض عن الله تعالى بالكلية ، ان للمرء حاجاته الدنيوية والأخروية والله هو الغني فيتجه بها إليه جل جلاله ، والدعاء مع هذا هو عبادة من العبادات ما دامت منصرفة إلى الله وليست لخلقه الضعاف الذين لا يملكون لا نفسهم ضراً ولا رشداً وذلك كل المخلوقين لا استثناء لأحد من ذلك العجز عن الاستجابة ، ولذا يحط المرء رحاله في حضرة مولاه جل جلاله يدعوه ويلح في الدعاء بقلب حاضر خاشع مستحضر ومستشعر اطلاع الله عليه وهو يدعوه ، وقد جاءت الآية (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ:

وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام ، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك . . نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة . نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم ، والجزاء المعجل على الاستجابة لله . . نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله ، وفي استجابته للدعاء . . تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير :{وإذا سألك عبادي عني ، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} . .فإني قريب . . أجيب دعوة الداع إذا دعان . . أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود ، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟

وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . أجيب دعوة الداع إذا دعان}.

إضافة العباد إليه ، والرد المباشر عليهم منه . . لم يقل : فقل لهم : إني قريب . . إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال . . قريب . . ولم يقل أسمع الدعاء . . إنما عجل بإجابة الدعاء: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} . .إنها آية عجيبة . . آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة ، والود المؤنس ، والرضى المطمئن ، والثقة واليقين . . ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ ، وقربى ندية ، وملاذ أمين وقرار مكين .وفي ظل هذا الأنس الحبيب ، وهذا القرب الودود ، وهذه الاستجابة الحية . . يوجه الله عباده إلى الاستجابة له ، والإيمان به ، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح .{فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} . .فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك .وهي الرشد والهدى والصلاح . فالله غني عن العالمين .والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد . فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد ، ولا ينتهي إلى رشاد . واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون . وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه . فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم .

أعظم النفقات

إنّ أعظم واجل النفقات والصدقات زمن الثورة هو الإنفاق على ما يكون به ـ بإذن الله وتوفيقه ـ تعضيدها وانتصارها ،بل إنّ هذا من أعظم البذل والإنفاق على الإطلاق لان المساهمة في الثورة بالمال مساهمة في رفعة الأوطان و تمكين الإنسان من أسباب كرامته وعزة نفسه وروحه وجلب الخيرات ودفع الشرور والتي لا يمكن فعل هذا إلا من خلال الثورة التي تقضي على الطغيان الذي تجذر وتجبّر وغدا رمز كل شر والداعي إليه و الرافض للخير ومُعلن الحرب عليه مسخراً في هذا موارد الأمة البشرية والمادية ،وتقوم الثورة لاستنقاذ الوطن ومقدراته من أولئك المستبدين المتسلطين وتعيد الحق إلى نصابه بتمكين الأمة من تسخير إمكانيتها في الخير والنفع للصالح العام وبما يحقق قيم الأمة وطموحاتها ويقضي على فقرها وجهلها ومرضها وليس لمصلحة مجموعة متسلطة ترمي بالفتات للعامة لتستكين وترضى بالدون وان فعلت العامة فان تيار الشرور الذي يتعاظم زمن الاستبداد يوشك بان يغرق السفينة بمن عليها من مستبدين ومستكينين .ولذا فان المساهمة في الثورة بالمال والنفس مساهمة واشترك في كل خير يتحصل بسبب الثورة وشر يندفع بسببها ولذا كان أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر فبها يندفع الجور عن الأمة وأعظم به مكسباً لامة تعبدها الله ويأبى بعض خلقه إلا أن يعبدوها لهم و أن يصرفوها بشتى السبل عن رسالتها في الحياة إلى جري ولهث خلف المطعم والمشرب والمسكن عند فئام من الناس وخلف الملذات المحرمة..عند أخرى..

وحينما يمر بالثورة شهر رمضان فقد اقترن خير الإنفاق مجالاً وخير الإنفاق زماناً ، انه اقتران لا مثيل له، اقتران عزيز بالرغم من ان المرء لا يتمنى حدوثه ولا تكراره فهو لا يتمنى للشعب الاستبداد وللأمة الامتهان بحكم متسلط يسومها العذاب حتى تقف في وجهة مُجردة حسامها الثوري في وجهه حتى يُغادر حاضرها لتنعم بالعدل والعيش الكريم والعزة القعساء ..

ولقد تواترت الأدلة عن مزية الإنفاق في رمضان فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة متفق عليه . قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم : (وفي هذا الحديث فوائد منها بيان عظم جوده صلى الله عليه و سلم ومنها استحباب إكثار الجود في رمضان ومنها زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم ومنها استحباب مدارسة القرآن) و قال ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في شرح رياض الصالحين : فينبغي لنا أن نكثر من الصدقة والإحسان وخصوصا في رمضان فنكثر من الصدقات والزكوات وبذل المعروف وإغاثة الملهوف وغير ذلك من أنواع البر والصلة . وقال في مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (وكان جوده صلى الله عليه وسلم يجمع أنواع الجود كلها من بذل العلم والنفس والمال لله عز وجل في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق , من تعليم جاهلهم وقضاء حوائجهم وإطعام جائعهم , وكان جوده يتضاعف في رمضان لشرف وقته ومضاعفة أجره وإعانة العابدين فيه على عبادتهم , والجمع بين الصيام وإطعام الطعام وهما من أسباب دخول الجنة ).

ولكن لا يعني هذا أن يحرم أهل الزكوات ملايين الفقراء والمساكين الذين ينتظرون رمضان بخيره المادي والمعنوي من زكواتهم وطيب نفقاتهم ولكن الضرورة تُقدر بقدرها.

قيام ليلة القدر

ليلة لا كالليالي ،ليلة تُبارك العمر ويعظم فيها الأجر ، لأجلها سهرت عيون وتعبت أجسام ، و فيها ارتشفت أرواح من نبع الأنس بالله وبذكره و بلذيذ نجواه ،ولفضلها حث المصطفى المعصوم على تحريها واغتنامها ،قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تحرُّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان).رواه البخاري ، وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تَقَدَّم من ذنبه" . قال ابن عثيمين في (تفسير العلامة محمد العثيمين ): «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه»، فقوله: «إيماناً واحتساباً» يعني إيماناً بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتساباً للأجر وطلب الثواب. وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر).

وجاء في تفسير روح البيان: {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قيامها والعبادة فيها {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي من صيامها وقيامها ليس فيها ليلة القدر حتى لا يلزم تفضيل الشيء على نفسه فخير هنا للتفضيل أي أفضل وأعظم قدراً وأكثر أجراً من تلك المدة وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر).

يقول سيد قطب: (والإسلام ليس شكليات ظاهرية . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام في هذه الليلة أن يكون «إيماناً واحتساباً» . . وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة « إيماناً » وليكون تجرداً لله وخلوصاً « واحتساباً » . . ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام . ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن . والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير . وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك . وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة ، وعن غير طريقها ، لا يقر هذه الحقائق ، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة . .وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيماناً واحتساباً ، هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم).

وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية : وَيَكُونُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعَاءِ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُول فِيهَا ؟ قَال : قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ : بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهَمَّ الْمَطَالِبِ انْفِكَاكُ الإِْنْسَانِ مِنْ تَبَعَاتِ الذُّنُوبِ وَطَهَارَتُهُ مِنْ دَنَسِ الْعُيُوبِ ، فَإِنَّ بِالطَّهَارَةِ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَهَّل لِلاِنْتِظَامِ فِي سَلْكِ حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

مدرسة الاعتكاف

الثورة .. ميادينها رباط وساحتها اعتكاف على تحصيل الخيرات للأمة ودفع عنها الشرور ، وحين يمر بها رمضان الثوري فانه يصبغ عليها المزيد من المهابة والوقار ويدفع بأصحابها إلى المزيد من الثبات والصبر والاصطبار ..المئات وربما الآلاف من الملتحقين بركب الثورة المبارك الميمون كانوا قبلها لا يُفرطون في اغتنام العشر الأواخر من رمضان بالاعتكاف في بيوت الرحمن وهاهم يحبسهم العذر عن رحابها التي يغمرهم الشوق إلى جنباتها و واحاتها ، وهم إنما يقومون بواجب الوقت الثوري الذي تُسخر فيه كل الطاقات لتغيير كامل في أداة الحكم بما يجعلها راشدة مُعلية مصلحة الأمة حريصة كل الحرص على ما ينفع الأمة في أمور الدنيا و الآخرة .