العائلية السياسية : نموذج التخلف والانكسار
د.فيصل الحذيفي
د.فيصل الحذيفي

تبسُـط العائلية السياسية نفوذها على الأمة بكل تمفصلاتها:« السياسة - الأوتوقراطية » « والاقتصادية – المعيشية » « والثقافية – التعليمية » ليصبح الإنسان العربي مخلوقا لخدمة التوجه العائلي المحتكِر لكل شيء، ومن لم يعجبه فليس بوسعه منازلة المشروع العائلي وهو لا يمتلك وسائل القوة للتغيير« السلطة والنفوذ والمال» والثورة. ولو عبر الغاضبون عن المشاريع السياسية العائلية في الوطن العربي في شربهم ماء البحر الميت الأكثر ملوحة في العالم لجف ماؤه خلال يوم واحد.

يطرح المشروع العائلي في خارطة السياسة العربية ثلاث معضلات كبرى، الأولى: إنتاج الدولة العائلية بدلا من الدولة الوطنية. والثانية: تأسيس الرأسمال العائلي بدلا من الرأسمال الوطني. والثالثة:إنتاج الثقافة العائلية بدلا من الثقافة المدنية، وهي معضلات سنتعرض لها بالتفصيل تباعا:

أولا: الدولة العائلية ضد الدولة الوطنية

من يتأمل في النظم السياسية العربية والسلطة الحاكمة فيها وآليات صنع القرار يدرك أن الشعوب العربية في الدستور مصدر للسلطات وهي غائبة في كل الدول العربية حتى التي تجري فيها انتخابات، لأن هذه الانتخابات حتما تؤدي إلى فوز العائلة بدلا عن ممثلي الشعب، وخطورة هذا الانحراف السياسي عن نصوص الدستور من جهة وعن مسار التطور الإنساني الحضاري من جهة أخرى يؤدي إلى غياب المواطنة السياسية التي من أهم مقوماتها المساواة أمام القانون، ويظل الإنسان العربي - ( ولا أقول المواطن) – في عتبة الرعية التابعة للراعي «السلطان» وهي تسمية خطيرة نجد جذورها في الفكر الفارسي القديم وما ورد من حديث وحيد عن الرسول عن « كلكم راع » يعزز إلقاء المسؤولية على الجميع وليس تمايزا حاسما بين الحاكم والمحكوم كما تكرسه الثقافة الوهابية والسلفية التقليدية النقلية المنتسبة إلى بن تيمية الذي يجيز الخروج عن الحاكم والثورة عليه.

وفي مشروع الدولة العائلية تغيب كليا دولة القانون ودولة المواطنة في سبيل تكريس دولة الرعايا والرقيق التي تتجسد في ثنائية « الأسياد والعبيد » ويغيب في قاموسها ثنائية الحاكم والمحكوم على أسس التعاقد بين الطرفين كشركاء في الوطن، ولذلك سنجد بأن السلطة هي الوطن وأن مفهوم الشعب مغيب في ممارسات الاستبداد العائلي المستمد شرعيته من انتخابات تؤول دوما إلى تفويض مطلق بالسلطات إلى رب العائلة ولا يجوز للشعب سحب هذا التفويض.

بمعنى أن تجرى الانتخابات ولكن العائلة الحاكمة – سواء كان النظام جمهوريا أو ملكيا - في جميع الأحوال هي الفائزة، وينطبق على الحكم العائلي مقولة الخليفة هارون الرشيد للسحاب الممطر:«اذهبي حيث شئت فإن خراجك سيأتي إلي» فأصبحت المقولة في ظل السياسة العائلية على هذا النحو:« انتخبوا وصوتوا كيفما شئتم فإن أصواتكم ستكون لي » وبالتالي من المضحك أن تحرص أحزاب المعارضة على تغيير النظام الانتخابي من أغلبية نسبية بسيطة إلى القائمة النسبية ظنا منها أنها ستحصل على عدد من المقاعد يتناسب مع حجم الأصوات، والحقيقة أن السلطة العائلية ستسعى إلى التخفيض من عدد الأصوات الذاهبة إلى المعارضة لتحصرها بعدد محدود من المقاعد، والحل المرحلي فقط يكمن في ضبط سجلات الناخبين وتشكيل لجنة انتخابية مستقلة وإجراء انتخابات حرة ونزيهة لا يكون للعائلة السياسية قدرة في تحديد نتائجها سلفا ولا توقعها.

ومن أجل استمرارية النفوذ السياسي العائلي والدولة العائلية فإنها تمد يدها إلى النفوذ المالي من خلال السيطرة على الثروة خارج السياقات السياسية.

ثانيا: الرأسمال العائلي ضد الرأسمال الوطني

إن المتأمل في معظم البيوتات التجارية في اليمن والوطن العربي هي بيوتات عائلية بامتياز وهذا تكـوٌن طبيعي في التاريخ الإنساني، غير أن الفرق بيننا وبين الآخرين أن المال العائلي تحول إلى رأسمال وطني لخدمة الدولة والوطن ولدينا نحن العرب بقي المال العائلي شريك للسلطة العائلية ومتحيزة لها ضد الشعب، وهذه السلطة العائلية لم تكتف بممارسة القوة السياسية والأمنية والعسكرية فقد تحولت بأفراد عائلاتها إلى دخلاء جدد في سوق المال والأعمال بسبب استغلالهم السلطة والقوة وامتيازاتها، وبالتالي فقد تحالف المال العائلي الاجتماعي مع المال العائلي السياسي ضد المواطن.

ومن الملاحظ إن التغيير في أوروبا لم يحصل للانتقال من سلطة الكنيسة إلى السلطة الزمنية كمرحلة أولى ومن سلطة الملك الاستبدادي إلى سلطة الشعب إلا بفضل تشكل رأسمال الدولة القومية المنحاز تلقائيا إلى الشعب وفرض أصحاب المال على«الملك» السماح بتمثيل القوى الاجتماعية في السلطة ومنها بدأ تطبيق ما يسمى مبدأ الفصل بين السلطات وتشكل جماعات الضغط على السلطة الحاكمة، ثم الرأسمال الوطني ثم المال العابر للقارات عبر الشركات العالمية التي بمقدورها إسقاط السلطة ومحاسبتها، بينما ما يتشكل لدينا من شركات عائلية وأحزاب وجماعات الضغط إنما تستهدف استضعاف المواطن بالتماهي والتحالف مع السلطة.

دعونا نستعرض أهم البيوتات التجارية في اليمن فإن الكثير منها ليس له فضل على الشعب اليمني حتى ببناء مدرسة أو مشروع خيري، واستعرضوا معي فقط من الحيتان الكبار ما يلي :(شركات الرويشان والبنك التجاري، وشركات الأحمر وبنك سبأ وسبا فون وإسكان سبا ومطابع الآفاق، وشركات شاهر عبد الحق والبنك الدولي، وشركات الأحول وتوكيلات السيارات الألمانية، وشركات الخامري وتوكيلات السيارات الأمريكية، وتوفيق عبد الرحيم، وبازرعة وتوكيلات تويوتا، وباذيب وتوكيلات كيا، وسابحة سوزوكي وبامعروف، والعمودي والعاقل وعذبان ودرهم وإخوان ثابت وشركة القائد والحباري والعيسي وشهاب والعودي ...) كلهم وغيرهم ممن يبلغون آلافا في الغرفة التجارية وأموالهم تفوق أموال الدولة بأضعاف لا يد بيضاء لهم على الشعب، بل إن أيديهم ملطخة بسرقات البلاد بالاشتراك مع العائلية السياسية، وهنا استثني بيت هائل سعيد التي حرصت أن يكون لها يد في السلطة ويد أخرى في المجتمع فبنت المدرسة والمسجد والجامعة والجمعية الخيرية والمستشفى وصرف الضمان الاجتماعي للمعوزين. واعتذر من رجال الأعمال الحضارم السباقين في خدمة أهلهم وعلى رأسهم بقشان.

إن غياب تكون الرأسمال الوطني فسح المجال لبقاء سيطرة المال العائلي – الاجتماعي والسياسي - وظل انحياز المال في اليمن والبلدان العربية إلى دولة العائلة بدلا من دولة الأمة وهذه الكارثة سببت تشوه جينات المجتمع المدني فنمت كسيحة معرضة للتدمير كلما شاءت لها الأقدار إن تـتـشكل مستقلة عن النزعة العائلية السياسية.

إن المشروع السياسي العائلي لم يكتف بالسلطة والمال بل اتجه إلى الفكر والثقافة وصياغة التاريخ وفقا لإعادة دعم مكانة العائلية السياسية.

ثالثا: الثقافة العائلية ضد الثقافة المدنية

سعت السلطة إلى تسخير وسائل الإعلام الحديثة ودور النشر بحكم النفوذ والمال إلى إعادة إنتاج ثقافة عائلية تمجد الحاكم وتقدسه «نثرا وشعرا نفاقا ودجلا» وبأنه الوحيد الصالح لحكم البلاد والعباد وبأن غيابه سيؤدي إلى قيام الساعة وهذا التعزيز الثقافي العربي أدى إلى استمرارية الحاكم في السلطة دون تغيير(=القذافي صالح مبارك البشير) ممن تجاوز ربع قرن.

إن الناس في بلادنا كبارا وصغارا حضريين وريفيين يعرفون رئيس الجمهورية المنتشرة صوره في كل الشوارع والمكاتب وزجاج السيارات وفي الفضائيات، ولكن المواطن لا يعرف حدود خريطة اليمن التاريخية ومن هنا رفع الجنوبيون شعار« برع برع ياستعمار» لأنهم يعتقدون أنهم غير يمنيين. ومن المهم في هذا السياق التذكير بحادثة احتلال اريتريا لجزر حنيش اليمنية حينما لم يكن للحكومة اليمنية أي خريطة تاريخية كوثيقة هامة للترافع بها أمام محكمة العدل الدولية وقد اضطرت الحكومة آنذاك إلى شراء الخرائط من الحكومة البريطانية بملايين الدولارات وشراء بعض الوثائق من الأشخاص (يوسف ندا) ولم يكن منتسبي القبائل المشهورين بالفيد(بعد تجربة فيد 94) يتصورونها جزرا داخل البحر، فقد شاع أن جماعة الشيخ (زعيط بن معيط) هبت ببنادقها إلى صنعاء بحثا عن فرزة جزر حنيش.

إن الثقافة العائلية تصنع مناضليها ومفكريها وشعرائها فيصنعونها، وفي ظل هذه النزعة المقيتة تجد أن رائد الأحرار والتنوير في اليمن الأستاذ النعمان مجهولا في عقول الأجيال، والشاعر الفضول كاتب النشيد الوطني الوحدوي لا يعرف عنه الناس شيئا، وغيره من رجال الفكر والتجديد في اليمن مثل الشيخ عبد الله الحكيمي وعبد الوهاب الوريث، بينما بكل يسر تستطيع أن تسأل عن شاعر الرئيس في الجعاشن ستجد حوله الحكايات، مقابل نسيان الشعراء الكبار مثل محمد سعيد جراة، ولطفي جعفر أمان، وادريس حنبلة وغيرهم كثر، باستثناء البردوني والزبيري اللذان فرضهما الواقع بسبب طبع أعمالهم وتداول شعرهم خارج الحدود.

إن الثقافة العائلية بدأت تخلق مناضلين جددا للثورة لم يكونوا مناضلين بينما أشخاص مثل جازم الحروي والخادم الوجيه والموشكي والحورش وعلي عبد المغني ومناضلون كثر لا حصر لهم لا يعرفهم الناس ومن يضاف اسمه في قائمة المناضلين هم تاريخ جديد لثقافة عائلية جديدة تستبدل التاريخ الحقيقي بتاريخ وهمي لشخصيات فرضت سطوتها على العقل بما تملك من وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة.

ومن البشاعة أن نرى أسماء المدارس والشوارع والمساجد وبعض المعالم التاريخية تمنح مسمياتها لرموز الدولة العائلية مع الإصرار على محو أسماء المناضلين المغمورين بفعل فاعل والذين قدموا دماءهم في سبيل هذا الوطن.

إن الثقافة العائلية انحازت لأعداء الطفولة لأن رموز التدين الوهابي أعلنوا ترشيحهم لرئيس الجمهورية وهو يقف معهم اليوم في حرمان الطفولة من التعليم ومن الطفولة نفسها بعرقلة قانون تحديد سن الزواج بغرض تسخير الفتيات الصغار للفراش والزواج السياحي دونا عن خلق الله، ومن القبح أن هذه الثقافة تستشهد بزواج الرسول من عائشة وهي صغيرة بينما دعاتها يتجاهلون رفض الرسول تزويج بنته فاطمة باعتبارها صغيرة.

  إن وسائل إعلام السلطة العائلية بدأت تدون فرزا بين مثقف يساندها فتسانده وتدفع به إلى المقدمة ومثقف مدني يتجاوزها ويلهبها بسياط النقد ومعاول التعرية فتسعى إلى تهميشه وخنقه ومحاربته وطمس آثاره.

إن السلطة العائلية هي نتاج المجتمع العائلي المكون الأساسي للقبيلة، والقبيلة أهم قلاع البداوة هي النقيض للمدنية، وإن أي تفاخر بالقبيلة هو إصرار على إبقاء المجتمع بدويا خارج الحضارة والمعاصرة.

وللقارئ أن يسأل: ما هو البديل للنتاج العائلي ؟. باختصار البديل هو التحول إلى « المدنية » ودولة المواطنين بدلا من دولة العائلة حيث يصبح للإنسان قيمة « ولقد كرمنا بني آدم... الإسراء 70» فالإسلام أول ما بدأ به هو تحويل المجتمع القبلي المنغلق الضعيف إلى مجتمع مدني منفتح يسوس العالم « بالعلم والعقل، والعقيدة والعدل».

hodaifah@yahoo.com


في السبت 17 إبريل-نيسان 2010 12:54:44 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=6906