غياب شروط النظام الديمقراطي الأنسب في اليمن
د.فيصل الحذيفي
د.فيصل الحذيفي

مقدمة :

هذه الإشارات تعقيب منا على ندوة النظام الأنسب في اليمن التي أقيمت بعناية موقع التغيير نت. ولكوني لم أكن مشاركا فقد تسنى لي متابعتها عبر ملتميديا موقع التغيير.ولو كنت حاضرا لقدمت هذه المساهمة.

تناولت الندوة « الحديث والمفاضلة » بين ثلاثة أنظمة سياسية شائعة في العالم وهي النظام الرئاسي والبرلماني والمختلط (البرلماسي) وهي أحد صور تجليات تطبيق الديمقراطية، أي أننا بالإمكان أن نطبق الديمقراطية ومبادئها وأهدافها بأساليب مختلفة ومن ذلك اختراع نظامنا السياسي الخاص (بالجواب على السؤال: مالهدف من أي نظام سياسي بعينه ليكون خيارا مفضلا لأمة من الأمم؟) إذ لسنا مجبرين على اختيار التطبيقات الثلاثة المنتجة في الغرب الحديث والمعاصر. فهي متطابقة من حيث الجوهر ومختلفة من حيث الإجراء.

ولهذا السبب سنسترسل فيما أغفلته الندوة التي تجاهلت مناقشة الشروط الموضوعية لتطبيق الديمقراطية في أي من الصور المشار إليها. وهذا يوجب طرح السؤال بشكل عكسي : ماذا لو كان المجتمع الأمريكي والبريطاني والفرنسي يشبه إلى حد ما مجتمعاتنا (فقر جهل بداوة )؟ هل كان سينجح فيها تطبيق الديمقراطية في أي صورة من صورها الزاهية ؟ الجواب كانت ستظهر ديمقراطية شوهاء كما هي ديمقراطياتنا في العالم الثالث حيث غياب الشروط والمؤهلات. وهذا يستدعي منا أن نستكمل الصورة بسؤال أخر : ماذا لو تبادلت كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية فيما بينها تبني النظام السياسي لبعضهما البعض. فهل كان سيتغير شيئا من مبادئ الديمقراطية ؟؟ لن يتغير شيئا من الجوهر وما سيتغير هو آليات الممارسة من حيث الشكل ولن تنزلق أي منها إلى الاستبداد السياسي.

لقد خلصت الندوة إلى التجاذب بين تفضيل النظام الرئاسي ( لدى الجفري) وتفضيل الرئاسي ( لدى الفقيه) بينما لم يتفطن السادة الكرام إلى أن كلا من تطبيقات الديمقراطية (برلماني، رئاسي، مختلط) يتحول بفعل سطوة الفرد ( الأوتوقراطية) إلى نظام استبدادي أيا كانت الصورة المتبعة في تبني النظام السياسي. والسبب يعود إلى غياب البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. وهو ما يعني أن المشكلة لا تكمن في تبني أيا من صور النظم الديمقراطية المشار إليها وإنما في صلاحية البيئة التي تمارس فيها الديمقراطية على وجه من وجوهها.

تـُـشـَـكل البنى الضرورية لتطبيق النظام السياسي الديمقراطي التربة الصالحة لإنبات المبادئ وتقوية جذورها في السلوك الاجتماعي العام، إنها بمثابة المحاضن الأنسب لإخصاب النظام الديمقراطي ونموه وتطوره، وبدون هذه المحاضن لا يمكن الحديث عن نظام انسب في ظل غياب الشروط الموضوعية التي تنجزها الدولة بمكونيها الفاعلين(الشعب والسلطة) عبر النخب الاجتماعية والسياسية في المجتمع. فما هي هذه الشروط ؟

أولا: الشرط الثقافي : (العقل أو إدارة الإنسان): في ظل تدني التعليم والوعي الاجتماعي والحقوقي لا نستطيع أن نتحدث عن مفهوم المواطنة لفرد لا يفرق بين حقوقه وواجباته ولا يعلم أن له حقوقا لدى الحاكم ولكن يقر بالواجبات والمبادرة بالطاعة العمياء دون شروط، ويفاجئك عندما تسمع هتاف بالروح بالدم بمناسبة وغير مناسبة، لا نستطيع أن نتحدث عن مشاركة سياسية وحقوق سياسية لفرد يجهل هذه الحقوق ولا يمتلك من الثقافة السياسية الحد الأدنى الذي يمكنه من فهم أهمية حضوره السياسي المستـقـل. وبالعودة إلى إحصائيات رسمية عن معطيات التعليم في اليمن نكتشف أن المجتمع غير مؤهل ( ثقافيا ) لممارسة ديمقراطية حقة في غياب هذا الشرط. وكل يوم يصاب التعليم في مقتل وهو المعزز للشرط الثقافي، فهل بوسع المجتمع أن يضغط باتجاه تنمية الإنسان وتطويره معرفيا؟.

ثانيا: الشرط الاقتصادي (المال): يتجسد هذا الشرط في مؤشرات ثلاثة: معيشة الفرد وقدرته الشرائية ، وبروز الرأسمال الوطني المستقل عن هيمنة السلطة، وظهور الدولة القادرة اقتصاديا على تلبية المطالب الاجتماعية في مجالات التنمية، فالمواطن الجوعان مؤهل إلى بيع صوته وضميره ونفسه في سبيل استمراره على قيد الحياة ولا يمكن أن يعبر عن خياراته وإرادته بل عن خيارات وإرادات من يتحكم بمصالحه واحتياجاته.وكذلك الرأس المال الوطني يبدو جبانا ويتحيز إلى السلطة التي يخاف شرها ويأمن مكرها ويطلب حمايتها وتسهيلاتها، وفي المحصلة النهائية يغيب اقتصاد الدولة القادر على انجاز التنمية والتقدم. وهذا الشرط هو ميكانزم الاستقلال الفردي والنخبوي والمجتمعي والتحرر من التبعية الداخلية للسلطة أو الخارجية للنفوذ الإقليمي والدولي.

ثالثا: الشرط الاجتماعي :(الإنسان في مجتمع سوي): يتمثل بإقرار المساواة الاجتماعية بين الجنسين في مواجهة التمييز، والمساواة الاجتماعية بين الناس أمام القانون في مواجهة النفوذ. إن المعضلة الكبرى في بلادنا هي غياب المساواة الاجتماعية ببعديها النوعي والبعد الاجتماعي، فلا تزال التراتبية الفئوية المتصلة بالسلطة أو المتصلة بالقبيلة تتجذر يوما بعد آخر، وتفوق سلطة القبيلة على سلطة الدولة، والبداوة على المدنية، وإخضاع السلطة السياسية لمنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية إلى شروطها، وقهر المرأة – اجتماعيا وثقافيا - لا يزال سلوكا اجتماعيا مشروعا لدى العامة أيا كانت مشاربهم وادعاءاتهم الفكرية والأيدلوجية سواء بما تفضي إليه العادات أو التبريرات الدينية الخاطئة، إذ لازلنا نستدعي المرأة اجتماعيا كإناء جنسي يستمتع بها الرجل ونقصيها عن دورها الاجتماعي، ولا أدل على ذلك من إصرار البعض على تبرير إباحة زواج الصغيرات بمعيار الصالحات وغير الصالحات للوطء، ونتجاهل المرأة بوصفها إنسانا كاملا لها كل الحق في التعليم والعمل وحق الاختيار المجسد بالحرية والإرادة.

رابعا: الشرط السياسي (المبادئ وقواعد العمل): إن الانجاز السياسي المتاح بين أيدينا - حاليا - يتمثل في تعزيز الحريات السياسية والتعددية والمجتمع المدني الفاعل، وفي ظل حضور هذا الشرط أو غيابه يطرح التساؤل الآتي: إلى أي مدى تستجيب التشريعات إلى أحقية الناس بالتنظيم وحرية النشاط السياسي ؟ فإذا غابت هذه الاستجابة يسقط حينها أي حديث عن خيارات مجتمعية في تحديد النظام الأنسب، وهو شرط متوفر تشريعيا ومستعصي تنفيذيا عند الاشتغال السياسي الفعلي وليس الممارسة التعبيرية اللفظية عبر الندوة ووسائل الإعلام وكفى. وفي بلادنا تتضمن التشريعات كثيرا من ذلك ويستعصي الواقع على التنفيذ الذي لا يؤدي إلى كسر العظم وخراب البيوت (بسبب غياب الشروط المشار إليها آنفا).

النظام السياسي من الأنسب إلى الممكن: وهنا ندعو الجميع إلى العمل من اجل تطوير النظام الحالي ( النظام المختلط) لتقليل كلفة التحول من نظام إلى آخر والتيه في صحراء التجريب والاكتشاف واختصارا للزمن. فالنظام البرلماني - وان كان هو النسب لأي ديمقراطية حقيقة - ليس ممكنا في اليمن، لأن الرئيس لن يقبل أن يتحول من شخص يمتلك كل السلطات إلى موظف تشريفات، أما الخيار بين النظام المختلط أو الرئاسي فلا اعتراض على أي منهما من السلطة، فكلاهما سيبقي الرئيس صاحب السلطة المطلقة ولن يتغير من الأمر شيئا.(على غرار أمطري حيث شئت فخراجك سيأتي إلي).

ومن أجل تطوير النظام الحالي فإننا بحاجة إلى الوسائل التالية : أن يتضمن تعديل الدستور نصا يحظر على رئيس الجمهورية الانتماء الحزبي باعتباره رئيسا لكل اليمنيين، والنص الدستوري على الفصل بين الدولة والسلطة وهو مكمن الخلل، فالفصل بين الدولة باعتبارها المؤسسة السياسية التي يستظل الجميع بظلها والسلطة باعتبارها مؤسسة وظيفية متغيرة بشخوص ممثليها، وما هو قائم الآن لا يوحي بهذا الفصل ، فالدولة اليمنية لا تملك جيشا ولا أمنا ولا اقتصادا ولا سيادة ، وما هو موجود هو جيش السلطة وأمن السلطة وسيادة السلطة وثروة السلطة وإعلام السلطة، والفصل بين الدولة والسلطة بنص دستوري سيعني تحويل الجيش من جيش السلطة الهادف لحمايتها من اجل البقاء إلى جيش الدولة الهادف إلى حماية المواطنين وحراسة الوطن، وبالتالي سيطال هذا الفصل تحويل الإعلام من إعلام السلطة إلى إعلام الدولة. كما ينبغي تقليص اختصاصات رئيس الدولة وحرمانه من سلطة التعيين لكبار الموظفين وتحويلها إلى وظيفة تكليف، واشتراك تعيين كبار موظفي الدولة بين السلطة التشريعية ( البرلمان ) والسلطة التنفيذية (سلطة الرئيس).فرئيس الحكومة والوزراء ورئيس مجلس القضاء ورؤساء الجامعات ومدير البنك المركزي ومدير الأمن القومي وكبار القيادات العسكرية والسفراء يتم حسمها في مجلس النواب ويصادق عليها بقرار جمهوري. ولاستكمال هذا التطوير سنكون محتاجين إلى إقرار نظام انتخابي يسمح لأي حزب الحصول على الأغلبية المطلقة التي لا تتعدى نسبة 55% حتى لا ينحرف نحو الاستفراد بالقرار وحتى لا يحرم من حقه في تشكيل الحكومة منفردا وتحمله المسؤولية كاملة في سياق رقابة صارمة من بقية السلطات.

وعند الحديث عن النظام السياسي سنكون مضطرين للاتفاق أولا – نظريا أو إجرائيا – على تحديد مفهوم النظام ومن ينشئ النظام ؟

النظام حسب تعريف لودفيغ فون برتالانفي إنه « مجموعة من (الأنساق) والعناصر ذات التبعية المتبادلة أي المرتبطة فيما بينها بشكل يؤدي تغيير أحدها إلى تغيير الأخرى وبالتالي يتبدل المجموع » وحسب كونديلاك( codillac ): « نظام تتساند فيه مختلف الأجزاء بصورة متبادلة» وعلى هذا الأساس فكل تعديل يمس نصا قانونيا أو دستوريا أو تشريعا برلمانيا أو تعديل برنامج الحكومة أو نوعها ونوعية المكلفين بمهامها كل ذلك سيؤثر على النظام تأثيرا جذريا أو سطحيا أو عميقا وفقا لنوع التعديل المستحدث على بنيات النظام.(لقد تعدل النظام التركي بتغير الحزب الحاكم عن سابقيه في الأيدلوجيا والأداء السياسي) ومن المهم هنا أن نتساءل عمن يؤسس النظام السياسي في دول العالم الثالث ويسيطر عليه؟.

نعتقد أن أربع جهات مؤهلة لإنشاء النظام السياسي، وكل جهة تصنع نظامها الخاص لتحقيق أهدافها وهي:

أولا: الاحتلال : في سياق التاريخ الاستعماري فقد تم استقلال الأوطان المستعمرة بعد معارك التحرير بالتفاهم بين المحتل المندحر والنخب الاجتماعية النضالية في ظل تفاهم الجلاء وبقاء الرابط السياسي والثقافي بين المحتل والنظم الناشئة بفعل تأثير المستعمر على البلدان المستعمرة كأحد شروط الجلاء واستمرار روابط العلاقات الثقافية والاقتصادية والسياسية ودعم النخب الجديدة الحاكمة لإحكام علاقة التبعية وقد يكون تعليم هذه النخب تم في مدارس وجامعات المحتل.

ثانيا: الحاكم : إن الفرد المستبد عندما يصل إلى السلطة بأي كيفية يصنع لنفسه نظاما خاصا يؤهله للاستمرار الأبدي في السلطة حيا أو ميتا، وكل حاكم وصل إلى السلطة بالحظ أو القوة - كما أشار ميكيافيلي - أو الانتخابات الصورية فهو يؤسس لحكم فردي استبدادي على هيئة حكم جمهوري ديمقراطي قد يؤول في نهاية المطاف إلى التوريث السياسي أو الأبدية السياسية (مصر،اليمن،الجزائر). وبالتالي فإن تصاعد معدل التشريعات والتعديلات الدستورية تظل سمة مميزة للحكم الفردي أو السلطة الأوتوقراطية بينما لا يتم هذا التعديل في النظم الديمقراطية في بلاد المنشأ باستثناء الإضافة والاستدراك لاستيعاب المستجدات دون الحذف والتبديل والمساس بمبادئ وجوهر النظام.

ثالثا: النخبة : والنخبة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: النخبة الحزبية (إن كان مسموح لها) ونخبة المجتمع المدني ونخبة السلطة ، فالأولى والثانية تحاولان – ظاهريا - تكريس حكم الشعب، والثانية تكرس - علنا - حكم السلطان ( الحاكم الفرد) باسم الشعب وهي مقصد حديثنا.

فنخبة الحاكم يطلق عليها في الفكر الإسلامي بطانة، وهي إما بطانة صالحة تعينه، أو بطانة فاسدة تؤلهه (= فاحكم فأنت الواحد القهار) وتصنعه زعيما أسطوريا، وتكتب له الخطاب وتصنع له البرامج وتشكله أمام الرأي العام بصيغة يبدو زعيما فذا وقائدا عظيما وتاريخيا وشخصية خارقة للعادات، وأنا أفضل تسمية هذه النخبة بـ:( بـِطـْن الحاكم ) فالحاكم الفرد يسعى لاختيار نخبته من أفراد طيعون وصوليون مستغلون الفرص لبناء ذواتهم بسرعة خاطفة، يستطيع أن يكشف الحاكم عوراته أمامهم دون خجل ولا يفضحونه مادام قويا ومصلحتهم لديه ويقبلون منه كل المهانة والإذلال بكثير من الرضا والقبول، لكن إذا تغير الحال فهم أول من سيكتب تاريخه المخزي، ولكونهم بـِطـْن الحاكم - وليس بطانته - فهم شخوص يسهل ابتلاعهم وهضمهم، لذلك يخفق الحاكم في كل سياساته بسبب النخبة المنحازة إلى الفرد المستبد لتحول أخطاءه إلى صواب مطلق فيصبح مرهونا بها وهي مرهونة به ( رهان وجود بتبادل الانحياز والعصبية السياسية) لذلك تجد أن نخبة الحاكم يمتد عمرها بعمره ، وستنتهي بانتهائه. وفي أي نظام ديمقراطي حقيقي (برلماني ، رئاسي ، مختلط) تنحاز النخبة إلى الحاكم عندما يكون صائبا وتوجه سهام النقد إليه حينما يجانب الصواب، وتعلن معارضتها له وان كانت من حزبه (نموذج كولن باول ، ومحاكمة كوستاف الرئيس الاسرائيلي).

رابعا: الأمة : وهي قدرة الشعب على فرض اختياراته بالتغيير الاجتماعي عبر اختيار هيئة تأسيسية بالانتخاب لصياغة عقد اجتماعي، مشروع دستور يخضع لاستفتاء عام ومنه يتشكل النظام ولن يكون للأمة حضور سياسي في صياغة النظام السياسي إلا إذا توفرت الشروط الموضوعية المشار إليها( سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية) باعتبار أن الأمة هي صاحبة السلطة وفقا لنص الدستور غير المعمول به.

وفي نهاية المطاف نسأل : من يصنع النظام في العالم الثالث واليمن جزء منه ؟

للأسف نقر بأن نخبة – بطن الحاكم البرجماتية باطنا وظاهرا - هي من تصنع النظام السياسي والنظم الفرعية المنبثقة عنه - تلبية لرغبة الحاكم الفرد - وهي من تصوغ الخطاب السياسي للحاكم في ظل غياب الأمة والنخب المستقلة عن السلطة. لذلك يولد النظام مشوها وأحيانا نرى ظلاله وتمثلاته ولا نرى حقيقته على أية حال. فهل بوسعنا أن نحقق شروط النظام قبل السعي لاختياره ؟ وهل بوسعنا تجاوز نخبة الحاكم والأحزاب إلى نخبة الأمة ؟.

* أستاذ العلوم السياسية

hodaifah@yahoo.com


في الخميس 02 إبريل-نيسان 2009 06:19:31 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=5107