تحية يمنية إلى العراق الأبية - قصص مدهشة وتفاصيل عجيبة
محمد مصطفى العمراني
محمد مصطفى العمراني
  

في العام 1993م حين كنت في الصف الأول إعدادي كان في مدرستنا مجموعة كبيرة من المدرسين العراقيين من الذين انتشروا في عموم اليمن ، مازلت أتذكر منهم الأستاذ صباح ، كان يتدفق بالحماس والحيوية ويفيض بالإخلاص لتعليم أبناء اليمن ، وقد تميز بطريقته رائعة في شرح الدروس ، وبأسلوب شيق في الإلقاء ، وبحب جارف للطلاب ما جعلنا نحب مادة العلوم ونتمتع بدراستها ، لقد كان هذا المدرس واحدا من عشرات الآلاف من المدرسين والأطباء الذين قدموا إلى اليمن .

 

وقد تتلمذت على أساتذة من بلاد الرافدين من بداية المرحلة الإعدادية إلى نهاية الدراسة الجامعية ، كان لدينا في الجامعة إضافة إلى العلامة الشهير الدكتور عبد الكريم زيدان ـ رحمة الله تغشاه ـ الكثير من الأكاديميين العراقيين ، أذكر منهم الدكتور فرست مرعي الدهوكي ، درسنا على يديه مادة التاريخ الإسلامي ، ولو أنني عشت لألف عام قادمة فلن أنسى محاضراته الشيقة ودروسه القيمة التي نقشت في ذهني وتغلغلت في شغاف قلبي ، ففي محاضراته كانت القاعة تمتلئ ولا يغيب أحد ، بل لا تكاد تجد موطأ قدم ، كان الكثير من الطلاب يقفون في نوافذ القاعة من الخارج ليشاهدوه بكل شغف وهو يشرح بتلك الطريقة الفذة المبهرة ، وبذلك الأسلوب البديع المتميز لأحداث التاريخ الإسلامي .!

 

كنا نرحل معه قرونا إلى الوراء ، نغادر عالمنا ، نعيش المعارك ، ونقاتل مع الفرسان ، نشاهد جحافل الجيوش ، ونشهد على الأحداث ، ونبتهج في الانتصارات ، ونحزن في الانكسارات ، ونتألم للخيانات ، نعيش معه التاريخ بكل تفاصيله وحقائقه ، بحلوه ومره ، فسلام عليه حيثما حل أو ارتحل .

 

أول كتاب قرأته من خارج المنهج الدراسي كان هدية من أستاذ عراقي ، وأول مجلة عرفتها في حياتي أهداها لي معلمي العراقي ، وأول عملية جراحية أجريت لي في حياتي كانت على يد طبيب عراقي ، وفي ليلة عرسي وكانت ليلة عيد الأضحى صحوت على عملية شنق صدام حسين الرئيس العراقي ، ارتبطت حياتنا بعطاء أبناء العراق ، وبأحداث بلاد الرافدين التي عشناها منذ طفولتنا إلى اليوم ، ومازلنا وسنظل نحب أبناء العراق ، ومهما فعلنا فلن نسدد ولو بعض ديون أبناء العراق علينا .

 

العراق قدمت لليمن الكثير من المشاريع ، الأطباء ، أساتذة المدارس والجامعات ، حتى طليعة قادة ثورة 26 سبتمبر كانوا من العراق ، الرئيس جمال جميل وغيره ، العراق هي من أول دولة استقبلت بعثة علمية يمنية في عهد الإمام يحيى حميد الدين ، ويخبرني دبلوماسي يمني درس في العراق كيف كان الطالب اليمني يجد في العراق التعليم والسكن والتغذية وكل أنواع الدعم سواسية مع أبناء العراق كأنه ابن البلد .!

 

هذا الدبلوماسي ما تذكر العراق إلا وتنهد من أعماق قلبه الذي يفيض بحب العراق أرضاً وإنساناً ، لقد حدثني عنها الكثير من زاد من حبي لأرض الحضارات ، وضاعف من شوقي لزيارتها بإذن الله .

 

ومن قرأ مذكرات المناضل اليمني الراحل أحمد حسين المروني " الخروج من النفق المظلم ـ معالم سيرة ذاتية " ، والذي كان أحد أعضاء البعثة العلمية الأولى إلى العراق وجد الكثير من القصص المدهشة والتفاصيل الرائعة التي تؤكد مدى حب أبناء العراق لليمنيين ، هذه البعثة ضمت مجموعة متميزة من أعلام اليمن أمثال : عبد الله السلال ، حسن العمري ، أحمد الأنسي ، وغيرهم .

 

كما كتب السفير عبد الوهاب العمراني Abdulwahab Alamrani فصولا ممتعة في كتابه الشهير " رؤية يمنية في أدب الرحلات " خصصها عن مشاهداته وانطباعاته ورحلاته إلى العراق ، وعن العراق وخصوصا أيام دراسته فيها وما عايشه من أحداث ومواقف وعادات وتقاليد ، وهي كتابات رائعة تستحق القراءة ..

 

✒️ - معلومات مدهشة عن العراق

 

إلى نهاية الثمانينات كان العربي الذي يدخل النادي العراقي في أي دولة يعتبر من النخبة المتميزة فالعراق صدرت الملايين من العلماء والأطباء والأكاديميين والمهندسين والخبراء في كل المجالات ، هؤلاء انتشروا في العالم أجمع وكانت لهم نوادي خاصة بهم وكان من يدخلها من غيرهم يعتبر من النخبة التي نالت الكثير من الحظ والتميز .

 

كانت العراق محط النخب العربية من كل الدول ، ومن كافة الاتجاهات وخصوصا من البعثيين والقوميين واليساريين ومن المستقلين ، وكانت حتى المقاهي في بغداد والبصرة وغيرها بمثابة منتديات ثقافية عامرة يأتي إليها الشعراء والكتاب والنخبة في كل المجالات ، وكانت جامعات العراق مضرب المثل في التميز والرقي والإنجازات العلمية .

 

كانت بلاد الرافدين قبل الحرب والحصار يأتي إليها المبدعون العرب من كل الدول ، وكانت تقام لهم المهرجانات والمؤتمرات ، ويجدون فيها التكريم والحفاوة والضيافة ، وكم يمم شطر بغداد من مثقفين وأعلام عرب نهلوا من خيرها ثم تنكروا لها وقت الضيق وتناسوها في محنتها .

 

العراق هي البلد العربي الوحيد الذي وصلت فيه الأمية إلى صفر ، وهي البلد التي تخرج منها مليون طبيب ، وهي البلد التي ضمت مئات الألاف من العلماء في كل المجالات ، وكانت تقدم منح دراسية للطلاب العرب وتقدم لهم كل أنواع الدعم ، حتى الكتب والمجلات كانت تباع بأسعار زهيدة جدا .

 

كان العراق بلدا متقدما مقارنة بالكثير من الدول العربية ، التعليم ، الطب ، الجيش ، الاقتصاد ، الصناعات ، الخدمات ، المستوى المعيشي ، كل هذه المجالات كانت متقدمة جدا حتى جرت كل تلك الأحداث والحصار والحروب ودارت الدوائر ووصل العراق إلى المستوى الذي يعيشه اليوم وهو مستوى محزن جدا ومؤلم لكل عربي .

  

📚 - عن العراق التي علمت العالم

 

من المؤسف أن الكثير من العرب بما فيهم البعض من المحسوبين على النخبة يجهلون تاريخ هذا البلد العربي الضارب جذوره في الحضارة الإنسانية ، هذا البلد الذي علم العالم الأبجدية وأسس الكتابة ، البلد الذي قامت على أرضه أول حضارة إنسانية على ضفاف الرافدين ، أبناء العراق هم من علموا العالم العلوم المختلفة من الطب إل الفلك إلى الرياضيات إلى الري إلى غيرها من العلوم ، هم أحفاد حمورابي وجلجامش والمتنبي ونبوخذ نصر وسرجون الأكدي والرشيد وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل والجاحظ وصلاح الدين الأيوبي والجواهري والبياتي والسياب ومحمود شيث خطاب وعبد الكريم زيدان والصواف والزهاوي وزهاء حديد وغيرهم الكثير من الأعلام التي يضيق بهم المقام .

 

في بلاد العراق قامت الحضارة السومرية والآشورية والكلدانية والبابلية وصولا إلى الخلافة العباسية حيث كانت بغداد عاصمة العالم المتنور المتحضر ، وفي العراق وجد الشعر والآداب والعلوم ، ومنها انطلقت رحلات السندباد ، والبعثات العلمية إلى العالم أمثال رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة ، وفيها نشأت الموسيقى والفنون والعمارة والمأكولات والاتيكيت والذوق .

 

ومن العراق صدرت الكتب ، وشهدت كل مدنه وحاراته وقراه قصصاً كألف ليلة وليله ، وقد قرأت في كتاب " كلمات من طمي الفرات ، مذكرات أحمد حسن الزيات رحمه الله عن العراق وفيها من قصص الحب ما يدهش الألباب وتسيل له العبرات ، كما قرأت في ذكريات الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمة الله تغشاه ـ الكثير من القصص والذكريات عن العراق وأهلها ، وكيف ظل الشيخ الطنطاوي يذكر العراق وأهله بكل خير وحب ، وبكل شوق ولوعة ويتمنى زيارته ، فكم شهدت أرض العراق من أمجاد وثراء قبل أن يكتب الشاعر السياب قصيدة " أنشودة المطر " ويقول فيها :

 

وكلَّ عام ـ حين يعشب الثرى ـ نجوعْ

 

ما مرَّ عامٌ والعِراق ليس فيه جوعْ.

 

وكم نتمنى أن يستلهم أبناء العراق هذا الماضي المزدهر والحضارة العريقة والتاريخ المجيد ليتجاوزوا تحديات الحاضر وينهضوا فوق كل الخلافات والحسابات والعوائق والعراقيل ويعيدون الوجه المشرق للعراق الذي علم العالم .

  

✈️ - هل سأزور العراق في حياتي ؟

 

وحين يتمنى الكثير منا نحن سجناء أوطاننا وأسرى بلداننا التي تحولت بسبب الحروب والأزمات والحصار زيارة بعض البلدان والسفر إلى تلك الأوطان أمثال سويسرا وهولندا وروسيا وغيرها أتمنى أن أزور العراق ، أن أتمشى في شارع المتنبي وأتجول في حارات بغداد وأسواقها ومكتباتها ومتاحفها ، أن ألتقي بأهلها وأستمع إليهم في المقاهي والمنازل ، وأتنسم عبق التاريخ ، وأتأمل الواقع ، أن أقف بجوار تمثال السياب في البصرة ، وأركب قارب نهري في دجلة ، أن أزور كردستان ، وأقف على ضفاف الفرات ، وأشهد بعيني طيبة وكرم أهل العراق ، وهي أمنية أتمنى أن تتحقق لي قبل الموت ، وأن لا تفتك الأمراض بجسدي قبل زيارة العراق الذي نتمنى أن يعود مشرقا كما كان حاملاً شعلة الحضارة مقدما العطاء للإنسانية كلها .

 

 فسلام على العراق وأهلها من البصرة جنوبا إلى كردستان شمالاً ، سلام على العرب والكرد والتركمان ، سلام على كل إنسان في أرض الرافدين .

 

تحية يمنية لأبناء العراق الأبية ، تحية من صنعاء إلى عراق التاريخ والحضارة والأمجاد ، تحية لأبناء الرافدين حيثما حلوا ، فهم سفراء الحضارة العربية في العالم ، وحاملو مشاعل التنوير والإنسانية مهما حدث ويحدث .


في الأربعاء 06 مارس - آذار 2024 05:09:08 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=46845