شبوة .. موطن الطلاسم والأسرار
نبيل مصلح قائد
نبيل مصلح قائد

على ناصية التاريخ السحيق، انتصبت شبوة القديمة تاجاً من الجلالة والبهاء، حضارة من نور، فاستحقت عن جدارة أن تكون سيدة المدن والعواصم، وملكة الحضارة والسؤدد، وموطن الطلاسم والأسرار، والمقابر والمعابد ، تتنوع آثارها مابين العصور البرونزية (ماقبل الإسلام) ومابعده، بالإضافة إلى العصر الحجري الحديث.

خيرات الوحدة تملأ أرجاء المكان

آثار خالدة

بلا موعد وجدتني ذائباً في خبايا شبوة القديمة غارقاً نوعة من زمن، وكأن آلة الوقت الحدباء قد أخذتني إلى هذا المكان الرهيب، وتبدت المواقع الأثرية المتناثرة كعيون الحوريات، والتي يصل عددها إلى أكثر من مائتي موقع، والمهابة تكاد أن تتحول فيني إلى رعشة فرح، ويتقافز البصر كعصفور مغرد على أغصان التاريخ، وثمار الحضارة الممتدة حتى أقصى حدود الإبداع... مستوطنات أثرية عتيقة وشظايا محطمة، وأدوات من حجر الصوان بأشكال ومقاسات مختلفة، ومبانٍ قبورية وجنائزية، منشآت مائية وقنوات ري، ونقوش بخط المنسد، ومخربشات صخرية بدائية، وتظل الدهشة هي المعربدة فيني، وعلى صدر كل حجر حكاية طويلة وأياد ماهرة، وعقول مفكرة تدل على أن كل شيء لم يأت من فراغ، وإنما من جهد وعمل دؤوب واتقان يتجاوز بفنه تغيرات الطبيعة وينتهي على تحديها، على الأقل ليثبتوا لهذه الحيلة التي التهمتهم أنها لاتستطيع ابتلاع مآثرهم الخالدة.

حيوات متعاقبة

تتبع شبوة القديمة في التقسيم الإداري الحديث مديرية عرماء، لكنها تبتعد عن مركز المديرية بحوالي الساعة، الأمر الذي جعلها كعروسة معزولة في قفاز من ذهب، حيث تغتزل في ذاكرتها ارهاصات الحيوات المتعاقبة، ذكرت في النقوش اليمنية القديمة، وفي المصادر الكلاسيكية، حيث ذكره «راتوشينيس» إنه كان اسمها«سباتا»، وكانت عاصمة لحضرموت في القرن الثالث قبل الميلاد، وذكرها«سترابون» في عام«64 ق.م» في كتابه الجغرافي السادس عشر قائلاً:«والطرف الأقصى من الإقليم المذكور تقطنه أربع أمم من أكثف الأمم عدداً، وهم المعينيون، وأعظم مدنهم قرناو، ويليهم السبئيون، وأكبرمدنهم مأرب، ثم القتبانيون، ويمتدون في سكناهم حتى المضيق، وعاصمتهم تدعى تمنع، وبعد ذلك إلى أقصى الشرق يوجد الحضارمة، ويسكنون مدينة شبوة، وتزداد الأهمية التاريخية للمدينة بما حولها كما يقول الأستاذ خيران محسن الزبيدي مديرعام الهيئة العامة للآثار والمتاحف بالمحافظة، حيث تعد من مناطق النشاط الإنساني منذ أقدم العصور، وجذورها غائرة في أعماق الزمن، ذكرها بليني في كتابه قائلاً:«جزء من هؤلاء هم الحضارمة، وعاصمتهم شبوة،وهي مدينة مسورة وبها ستون معبداً»، ومن المؤكد أن شبوة القديمة كانت مركزاً دينياًَ للدولة السبئية، وكانت مركزاً لتجارة اللبان الذي لايوجد في أي مكان آخر سوى في جزير العرب، وهو لاينتشر في كل أرجائها، بل يتركز وسط البلاد، وخاصة في حضرموت، وهي مقاطعة سبئية وعاصمتها شبوة تقع على جبل بارز، وبعد جمع اللبان والكلام لبيلني يتم نقله على ظهور الإبل إلى شبوة التي يفتح في سورها باب واحد تعبر الإبل من خلاله إلى طريق جهزه الملوك لهذا الغرض، وفي شبوة يتم تثمين الحمولة بالمكيال «القدح»، وليس بالوزن، حيث يؤخذ العشر لإله يسمونه«سابين» ويحفظ لدى الكهنة قبل أن يسمح بالاتجار به، ومن هناك يحمل ليتم عرضه أمام الناس، ليعرفوا أن الإله يحتفي ويكرم ضيوفه، ولايمكن تصدير اللبان إلا عبر بلاد القتبانيين، حيث تفرض هناك ضريبة يدفعها التجار للملك».

زيارات تاريخية

الصحراء تشكل ساعة رملية ذراتها الدقيقة تشير إلى الرابعة مساء ، والأماكن تستدعي زائري هذه المنطقة الفريدة، ففي العام 1934م تمكن هلفرتز من الوصول إليها ضمن رحلته التاريخية المشهورة، وعقبه الرحالة فليبيني بعد عامين آتياً إلى قلبها من الشمال الغربي، ورسم مخططاً لها«بنات سبأ» وفي العام 1938م قام هاملتون بعمل حفرية محدودة، واستمر الاهتمام يحتضن هذا الكنز، فقامت البعثة الأثرية اليمنية الفرنسية المشتركة بأبحاثها في خباياها الثمينة واستمرت مدة تسعة وعشرين عاماً، وأجريت التقنيات الأثرية حول القصر الملكي والمعبد وبعض البيوت السكنية في المدينة والقبور، وكذلك حول البيوت الطينية خارج سور المدينة في الناحية الشرقية والشمالية، وتم الكشف عن الأسرار الغامضة التي تسكن هذه المدينة الأسطورية.

عصر ما قبل الإسلام

حتى اللحظة والاكتشافات لم تتوقف، والأسرار والشيفرات لم تكتمل بعد، وهناك تسعة عشر موقعاً أثرياً تم اكتشافها خلال الشهر الماضي من العام الحالي كما يقول الأخ خيران الزبيدي، وكل شيء ملئت به حدقاتي مبتدئاً بعصر ماقبل الإسلام، والبداية مع موقعي جدفرة الأول والثاني اللذان يحتويان على منشآت مائية، فالأول يحتوي على بقايا منشآت للري كانت تستخدم للتحكم بتوزيع مياه الأمطار الموسمية إلى الأراضي الزراعية الواقعة إلى الغرب والشمال من مدينة شبوة القديمة، وتتكون معمارياً من صفين من الأحجار الهندسية المهندمة، تتخللها أحجار مكورة وضعت بشكل مستو، ويرتبها بهذه القنوات منشآت مائية أخرى، تشكل في مجموعه منظومة ري متكاملة، أما الموقع الثاني فيحتوي على قنوات ذات جدران مائلة من الأحجار المكورة والطين تساعد على تحويل المياه إلى فتحة واسعة تمثل مدخلاً رئيسياً لشبكة ري مرتبطة بالأراضي الزراعية، وبعيداً عن هذين الموقعين ينتصب قرن الفهود كأسد ينقض على فريسته وهو عبارة عن جبل صخري متوسط الارتفاع توجد في واجهته الشمالية نقوش بدائية لحروف بخط المسند، ومخربشات لأشكال حيوانية وآدمية نفذت بطريقة النقر الخفيف على الصخر، وعلى حافة الجبل تظهر بعض أساسات متينة لمبان غير واضحة المعالم، تنتشر حولها شظايا من حجر الصوان، وبقايا فخار، وإلى جانب هذا الموقع مبنى اسمه المحير، وهو عبارة عن تلة متوسطة الارتفاع شيد في أعلاها بناء مستطيل الشكل من أحجار كلسية مختلفة الأشكال، يوجد على أحدها بانوراما لرسوم ذات حفر غائرة وإلى اليمين ثعبان ملتوٍ يليه قدم ويد لآدمي، ثم حرف«ق» بخط المسند البدائي.

مواقع مندثرة

على قلب كل موقع تعتريني الدهشة وتعربد بعواصفها السعيدة حسب اعتقاد سكان البادية وخصوصاً أسفل العقيبات ذات الطرق والمنشآت الجنائزية ، والذي يعود إلى العصر البرونزي ماقبل الإسلام، وهو عبارة عن مبان قبورية بأحجار كلسية متنوعة الأحجام والأشكال، وإلى جانب هذه القبور القبابية والدائرية تمتد طريق ممهدة تتصل بأعلى المرتفع الجبلي كانت تستخدم لنقل البضائع التجارية والأحجار، وفي نهايتها بقايا بيتين بأشكال دائرية، ثم يأتي مسكن خشم حراد، وبعدها نقوش شعب حراد البديعة، ومع الأسف فإن هذه النقوش قد تم نقلها من قلب شبوة القديمة، وبناء مساكن حديثة، وهي عبارة عن أحجار جيرية هندسية الشكل منقوش عليها صورة ثور بطريقة النحت الغائر، وخطوط مسندية... كانت الآثار تستحم بأشعة الشمس الدافئة مستلذة مداعبتها الجميلة اللطيفة، ويزداد الاستحمام اللذيذ في محجر البيرة ذي التكوين الصخري المدعج والذي كانت تستخرج منه الأحجار الكلسية للبناء، وعليه بعض الكتابات الواضحة،وأعلاه مباشرة بقايا مقبرة ربما احتضنت هذا الخطاط الماهر، وتستمر الخطوات في جرجرة اكتشافاتها متعثرة بمنشأة مياه في مقاة تربط قنواتها الثلاث مادة القضاض، ويليها قبر لجاف مقاة الذي تجذب مغناطيسيته الأسطورية واحات التأمل الفلسفي وإن كان موقع العقلة أكثر جاذبية فذلك بسبب البرج المستدير المتربع قمة صخرية عريضة، والبرك الراقصة عند أقدامه بنقوشها الزاهية، وفي المقابل مباشرة تنتصب صخرة عليها نقش لملك حضرموت، وتنتهي فترة ماقبل الإسلام بانتهاء موقع محير حزام المحتوي على منشآت مائية لتصريف السيول المؤدية إلى الشمال الغربي من وادي المعشار.

العصر البرونزي

التعريج على الأماكن الأثرية الهامة للعصر البرونزي خاصة تجبر الكاتب والزائر المهتم بها أن يمسح أو يجسد بقلمه كافة عصورها المختلفة، ويعد العصر البرونزي من العصور الرائدة التي تستحق الجلوس معها، والبداية مع مستوطنة طرف مربخ المديمونة المتبقي من معالمها بعض أحجار رملية عليها نتوء وآثار نقر خفيف ربما كانت تستخدم كأدوات لجرش الحبوب، بالإضافة إلى حواف أوان عليها زخرفة خطوط حلزونية متموجة، وكسر عظام حيوانية وآدمية، وأصداف متناثرة على سطح الموقع، أما مساكن ومقابر خشم فهران فإن معالمها الأثرية مبعثرة على الجبل المارد، وهي عبارة عن مساكن دائرية ومستطيلة، ومجموعة من المقابر ذات المقاسات والأشكال العجيبة والغريبة، تماماً كتلك الغرابة التي تظهر عند قبر ومسكن خشم البيرة ذي الأحجار الكلسية غير المهندمة، وكذلك قبر لجاف مقاة «تسمية حميرية» ذي الشكل الدائري الذي تتوالد من حوافه الحسرة على التخريب والنبش الذي تتعرض له، وهذا ليس بجديد على العين فكل المواقع لم تسلم من النبش والهدم لأيادٍ طامعة غرضها البحث عن الذهب، وأخرى غرضها بيع التماثيل والعملات لأجانب أنانيين لايحبذون سوى مصلحتهم.

العصر الحجري الحديث

تختزل شبوة القديمة في صدرها زهوراً خالدة لاتذبل من الحضارات المالئة هذه الدنيا... كان السياح الذين التقيتهم يحملون خرائط صغيرة ودقيقة تؤدي كافة طرقها المعرفة بسهام حادة إلى شبوة القديمة ذات الدائرة المميزة، واذهلوني جميعاً للمعلومات التاريخية التي بحوزتهم عنها، فقررت بعزيمة أن أعثر على آثار العصر الحجري الحديث، ولم يطل بحثي خصوصاً وأن الأستاذ خيران الزبيدي قد حدد لي كل شيء، وأخذت قسطاً من الاسترخاء في مستوطنة الفجاء التي تتناثر حولها المقابر كدليل حي على وجود حياة كانت تعج ذات يوم هنا، وتتحرك بضعة ثعابين نابعة منها لم تكن مخيفة رغم ألوانها الكئيبة... كانت أليفة إلى الدرجة التي اعتقدت فيها أنها ليست إلا أولئك البشر القدامى تمر بهذا الطور من الخلق، وانسحبت الواحد تلو الآخر غائبة أسفل التلة ذات الشظايا الحضارية، وأدوات حجر الأويسيدان، والبقعة صمت، وبكاء يوشك أن يسيل من مسامات الأحجار الممزقة، وفي الأفق وهج تابعته مشاعري التي حملتني بلا شعور إلى مستوطنة ومقابر النصلة، والنصلة جبل ممشوق كنصلة جنبية يمنية قديمة تلمع في متاهاته مساكن ذات أشكال هندسية وقبر مخرب، واللافت للانتباه أن هذه النصلة كان بمثابة معمل لصناعة الأدوات الحجرية الصوانية، مازالت بقايا شظاياها ونوياتها منتشرة على السطح، وقد تمكن فريق البحث الأثري من تجميع بعض الأدوات الصوانية المميزة كنماذج، أهمها سهمان منتظمان يشبهان نمط الأسهم التي عثر عليها في الربع الخالي.

عودة إلى الأصول الأولى

طائر يقف على رأس معبد، وثعبان عملاق من وسط الركام المخرب واقف على ذيله كنوع من الاحتجاج على تاريخ توشك أن تبتلعه الأرض والأيادي اللولبية، وجدار أثري يتداعى منكباً على وجهه، وصخور ومقابر ومساكن تقشرها السيول، ورعاة حولوا التماثيل الصغيرة إلى عصي يهشون بها شياههم وأغنامهم، والأحجار الكريمة والصوانية إلى كتل يقذفون بها مواشيهم الشاردة، وأكملت الرمال المتحركة مانقص... طمرت الرؤوس الأثرية المنتصبة، ومسحت الأشكال والرسومات العجيبة... إنها الطبيعة تريد أن تعود إلى أصولها الأولى.

بهجة العيد في شبوة

فرحة كبرى ولا نهائية تحف وتكتنف محافظة شبوة من أقصاها إلى أدناها ومن باديتها إلى حاضرتها بمناسبة أعياد الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، ويأتلق هذا العرس مرفرفاً على كل منزل وفي كل قلب، ابتهاجاً بالذكرى السادسة والأربعين للثورة السبتمبرية عملاقة للوحدة اليمنية.. صحيفة الثقافية قرأت هذا الحبور على كافة ملامح الأرض والإنسان الشبواني، والتقت بالدكتورة اشراق ربيع السباعي رئيسة اللجنة الوطنية للمرأة بالمحافظة، والتي عبرت عن سرورها البالغ بهذا العيد الوطني قائلة:

في الحقيقة إن الفرحة بهذا العيد السبتمبري تغمرني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي، حيث تم فيه القضاء على الإمامة والاستبداد والتخلف الذي غشي الشمال في الفترة التي سبقت هذه الشرارة العظيمة، وإنني أرسل الرحمات إلى أولئك الشهداء الأبرار الذين قدموا دماءهم وأرواحهم في سبيل الوطن، وأنثر على قلوبهم الشريفة باقات من الغار والزهور، إذ لولا الله ولولاهم لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من تقدم وازدهار كما لا أنسى أن أقدم أسمى آيات الشكر والتقدير لأولئك الثوار الأحرار الذين مازالوا ينعمون بفرحتهم على تراب هذا الوطن المعطاء وإنني أؤكد أن القضاء على الإمامة يعد قضاء على الجهل والتخلف والفقر والمرض عبر مسيرة الثورة بعطائها المتجدد.

سيد الأعياد والأفراح

وأضافت في سياق حديثها وملامح السعادة تشع من عينيها قائلة: لقد كانت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر هي الثورة الأم للرابع عشر من أكتوبر والثلاثين من نوفمبر 1967م الذي تم فيه القضاء على الاستعمار الانجليزي الذي استمر مائة وتسع وعشرين عاماً، وخروج آخر جندي بريطاني من الجنوب اليمني سابقاً، كما أن هذه الثورة الخالدة هي القاعدة الأساسية التي انبثقت من خلالها الوحدة اليمنية المباركة، والمنجزات العملاقة في ظل باني نهضة اليمن فخامة المشير الرمز علي عبدالله صالح، ولذلك فلابد أن يتعملق فرحنا تماماً كثورتنا السبتمبرية الخالدة ثم اختتمت حديثها بالقول مبتسمة:

إن محافظة شبوة بنسائها ورجالها، وصغارها وكبارها تغمرهم الفرحة بهذا العيد الجميل الذي يساوي آلاف الأعياد، والذي إلى جانب تزامنه مع خواتم شهر رمضان المبارك، وحلول عيد الفطر السعيد، يعد امتداداً لتحقيق طموحات وآمال الشعب اليمني الواحد في الالتقاء والعناق والحب والأخوة التي تمت فعلاً في الثاني والعشرين مايو 1990م، وأنني استغل هذه المناسبة الغالية على نفوسنا.

نقلاً عن الثقافية


في الإثنين 29 سبتمبر-أيلول 2008 03:06:25 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=4236