عن صراع المساجد
عبد الملك الجهمي
عبد الملك الجهمي


تذهب إلى المسجد لتصلي الجمعة كما تفعل كل أسبوع. تشاهد فلانا و فلانا من جيرانك و أصحابك و معارفك و تسلم على الجميع. لديك مكان مفضل تجلس فيه في زاوية محددة من المسجد. لديك مشاكك و همومك تماما مثل ما لدى كل الناس المحيطين بك و الذين ينتظرون مثلك خطيب الجمعة.
يصعد خطيب الجمعة المنبر و يؤذن المؤذن و تبدأ الخطبة. لا تختلف الخطبة هذا اليوم عن سابقاتها حتى أنك أصبح بإمكانك بعد الجمل الخمس الأولى أن تحدد موضوعها- هذا على الاقل ما تعتقد. لا تتوقع مفاجآت و لا تريد مفاجآت. تريد أن تقضى فرضك و تعود إلى بيتك لتتغدى ثم لتقيل مع أصحابك و معارفك الذي لم ترهم منذ الجمعة الماضية
و فيما أنت مستغرق في أفكارك يأتيك صوت من عمق لا شعورك ينبهك بأن خطبة اليوم مختلفة و ليست كالعادة. يخبرنا علم النفس أننا حتى في غمرة انشغالنا بشئ ما فأن جزءا من وعينا اللاشعورى يظل يراقب ما يحدث من حولنا. ينتابك هذا الشعور الذي ينمو تدريجيا و يتقدم من العمق إلى السطح. تقطع أفكارك و تحاول الان أن تصغي إلى الخطيب لتتأكد من ذلك الشعور.
بالفعل الخطيب يتحدث عن التطرف و الارهاب و الأفكار و المذاهب المتشددة و المتشددين.
"هذا شئ غير معهود! ألا يكفي التلفاز؟\" تحدثك نفسك. تتلفت يمنة و يسرة لترى كثيرا ممن حولك ما زالوا منكسين رؤوسهم و غارقين في أفكارهم فيما تعلو علائم الاستغراب و السخط وجوه البعض. تقع عيناك على عيني صديق لك فيبتسم و يرفع كتفيه مبديا استغرابه هو الاخر. تحاول العودة إلى ما كنت فيه فلا تستطيع. هناك الان شعور غريب بالقلق ينتابك يجعلك تردد في داخلك \"اللهم الطف.\"
تتنفس الصعداء عندما ينتهى الخطيب من الخطبة الثانية و ينخرط في الدعاء. و فيما أنت تستعد للقيام للصلاة تصلك أصوات عالية تصرخ \"الله اكبر الموت …\" تتلفت مستغربا إلى ما حولك فترى مجموعة ما الشباب تصرخ و ترفع أيديها في الهواء. تستدعى من ذاكرتك أين سمعت و شاهدت هذا من قبل؟ نعم شاهدته مرات في التلفاز و في بعض المساجد قبل أشهر.
تتلمس وجوه الذين لا يصرخون. الجميع مستيقظ الان و علائم السخط و الاستغراب مرتسمة على بعضهم. هذه أول مرة تتردد هذه الصرخة في أرجاء هذا المسجد. يعاودك ذلك الشعور بالقلق و تردد تلقائيا \"اللهم الطف\" و تنقل بصرك إلى الخطيب الذي كان قد نزل من المنبر استعدادا للصلاة فترى عليه علائم الاستياء و الخوف.
هل تتوقف المفاجأت عند هذا الحد؟ طبعا لا.
تسمع أصواتا غاضبة هذه المرة ترافقها جلبة. هناك الان حالة من الفوضى تعم المسجد و هناك سباب و شتم و شجار و خروج لبعض الناس من المسجد بدون صلاة.
"لا حول و لا قوة إلا بالله! كأننا في سوق!\" تقول لمن جنبك.
لا تعرف بالضبط ما الذي يحدث و تنتظر بفارغ الصبر انتهاء الصلاة لتخرج من المسجد. تلتفت لا شعوريا للمقيم تماما كما يفعل ذلك معظم من حولك مرددا
"أقم الصلاة. أقم الصلا.ة"
آملا أن تغيثك أقامة الصلاة من شعورك بالضيق مما يحدث.
تقام الصلاة و ما إن يسلم الامام حتى تقوم من مكانك لتخرج دون أن تكمل -على غير عادتك- آية الكرسي و سورة الصمد و دون أن تنتظر صلاة العصر.
أثناء خروجك يأتيك صوت عاقل الحارة الذي تعرفه جيدا:
\"المقيل اليوم عندي في البيت لنحل هذه المشكلة.\"
\"المشكلة؟ أي مشكلة؟\" تتساءل قبل أن تقول \"لا حول و لا قوة إلا بالله!\"
هناك الآن مشكلة اضافية لم تكون موجودة هذا الصباح كفيلة بأن تحتل مقيلك اليوم و أيام أخرى قادمة و أن تلاحقك لبيتك و مكان عملك.
عقب الغداء تتفق مكرها مع بعض أصدقائك على تغيير مكان المقيل لديوان عاقل الحارة لترى - آملا- نهاية مشكلة اليوم.
في المقيل يكثر الحديث و تتعالى الاصوات و يصبح الجو مشحونا بخليط من الدخان و الغضب و الاستنكار و الهياج. الكل يريد أن يتحدث و لا أحد يريد أن يستمع. الحديث الرئيسي الذي ينبغى أن يخيم على المقيل هو موضوع الصرخة و ما حدث في المسجد أثناء الجمعة، و لكن معظم الحاضرين مشغولون في أحاديث جانبية مع من حولهم و لا يتوقفون عنها إلا عندما ينبهمم وعيهم اللاشعورى بشئ متعلق بهم و بالموضوع الرئيسي للمقيل. عندها يوجهون حديثهم للجميع كما لو كان الكلام حمولة يبغون أن يخففوها عن أنفسهم غير آبهين بمن يستمع لهم من الحاضرين. حتى عاقل الحارة منهمك في أحاديث جانبية مع من حوله ربما نادما على دعوته حضور من في مقيله.
موضوعات الحوار متعددة و غير متجانسة و يتم الانتقال من موضوع لآخر بسرعة عجيبة. هناك حديث عن حرمة المساجد و عن التمرد الحوثي و عن حرمة الكلام في المسجد أثناء الخطبة و عن المنافقين و عبدالله بن أبي و عن المتطرفين و الدواعش و الذين شاهدوا صورة ما أو علقوا عليها في الفيسبوك و عن حروب عمران و رداع و الجوف و دماج و عن الانفصال و من الذي بدأ حروب صعدة الستة و كيف أن الصرخة مستلهمة من القرآن و عن انقطاع الكهرباء و غلاء الاسعار و عن الزيدية و الجارودية و الاثناعشرية و السلفية و عن حلقة البارحة من برنامج عرب أيدل و عن حرية الانسان في أن يقول ما يشاء متى ما شاء و عن المسيرة القرآنية و الاصلاح و طبعا عن فلسطين و القدس.
و مع كثرة الكلام و تعدد الموضوعات يخيم على الجميع شعور بالضيق و الاحباط و بأنهم بالفعل أمام مشكلة عويصة و في ورطة حيقيقة. يزيد من هذا الشعور ارتفاع الاصوات لدرجة الصراخ و الشجار الذي يطل برأسه أحيانا و يختفي أحيانا أخرى.
و رغم أن هناك شعور عام بأن ما حدث اثناء صلاة الجمعة كان خطأ، لكن لا اتفاق على تحديد مكمن الخطأ. هل هو الخطيب أم الخطبة أم الصرخة أم الصارخون أم السباب أم الشجار بعدها أم الجميع؟ هنا يتم تبادل اللوم و رمي الاتهامات من لائم للخطيب لاثارته الموضوع الذي سبب الخلاف و من متهم للصارخين باختراع المشكلة و من لائم لمن شتمهم و سبهم أثناء صراخهم و من لائم للعاقل لأنه لا يعرف كيف يدير أمور الحارة و من لائم للكل على حد سواء لأنهم \"يستاهلوا؛ ربنا أخبر بهم\"
ينتهي المقيل و لا احد يدري بالضبط لا ما المشكلة و لا ما الحل؟
أم المشكلة التي لا أحد يعرف كيف يضع يديه عليها فقد تناسخت إلى أكثر من نسخة؛ واحدة في مخيلة كل طرف. و الحلول (لا الحل) التي تم التوصل اليها (و لا يمكن القول بأن اتفاقا قد حدث حولها) غريبة كغرابة المشكلة نفسها.
في الظاهر سيذهب بعضهم الى المفتي ليسأل إن كانت الصرخة جائزة قبل صلا ة الجمعة أو بعدها و كم عددها. أما في الباطن فإن كل طرف قد خرج بقرار يخصه و حل يتبناه.
بعضهم سيقدم شكوى لوزارة الأوقاف ربما لتعيين خطيب آخر أو لتحديد موضوع الخطبة. و الخطيب مستاء مما حدث و أقسم أن لا يخطب مجددا حتى يتم الاعتذار اليه. أما عاقل الحارة فقرر سرا اغلاق المسجد يوم الجمعة القادمة منعا لتطور المشكلة و لأن الناس لم تعد تستمع له.
بعض الناس قرروا أن يصلوا الجمع القادمة في بيوتهم، و الصارخون عقدوا العزم على أن لا يعطوا \"الدنية\" في شعارهم و انهم سيدعون أنصارهم لحضور الجمعة القادمة و اطلاق الصرخة بشكل أوسع ليعلم الجميع أنهم ليسوا ضعافا أو جبناء. أما مناوؤوهم فقد قرروا أن يبدؤوا من الجمعة القادمة الصلاة في المسجد الآخر للحارة.
بعد شهرين من تلك الجمعة مازال: كلهم على حق، كلهم مظلومون و أُخْطِئ في حقهم ، كلهم يدعون للتسامح و القبول بالاخر و يرفضون في الوقت نفسه الصلاة في مسجد واحد، كلهم يعمل في سبيل الله و من أجل نصرة الدين، و طبعا كلهم فداء للاسلام و المسلمين!
هل هذه القصة مألوفة؟ طبعا فنسخ من هذه القصة تتكرر باستمرار في القرى و الحارات و منذ زمن غير بعيد. إذ أن هناك صراعا في المساجد و آخر محموما على المساجد بين الاصلاحيين و السلفيين و أنصار الله و غيرهم.
ما يعقد الأمور في مثل هذه القصص أن الأسئلة الخطأ هي التي تطرح للنقاش. هل الصرخة جائزة أم لا و كم عددها؟ ما هو دور المسجد في الاسلام؟ ما حرمة المسجد؟ هل تجوز الصلاة في مساجد المخالفين؟ أليس من حقي أفعل ما أشاء مادمت لا أوذي أحدا؟ كيف كان المسجد في عهد الرسول (ص)؟
المشكلة في هذه الاسئلة أن الحديث حولها يعتمد على قناعات الأفراد الدينية و انتماءاتهم السياسية و هي قناعات في الأغلب قد تشكلت و من المضيعة للوقت محاولة تغييرها أو إقناعهم بغيرها. كما أن الحديث حولها يتحول بشكل تلقائي للحديث في الدين. و ما أدراك ما الحديث في الدين؟
الأجدى في مثل هذه الحالات أن ننظر للمساجد كأماكن عامة و غير محتكرة من قبل أحد، و أن نتساءل عن دور مسجدنا نحن في مجتمعنا نحن، و كيف نريد كأبناء حارة واحدة أو قرية واحدة لهذا المسجد أو لأماكننا العامة الأخرى كالمدرسة و المستوصف أن تكون.
هذه الاماكن العامة تفرض قيودا منطقية و مقبولة على حرياتنا كأفراد. فلست حرا في المسجد بقدر حريتي في الشارع و لست في الشارع حرا بقدر حريتي في البيت.
و لأننا أحيانا لا ندرك قبح مانفعله إلا إذا وضعنا له اسما و علقنا هذا الاسم على لافتة كبيرة و توقفنا برهة لنشاهد ما علقناه، فعلينا أن نتساءل مثلا إن كنا سنقبل أن تعلق لافتات مرئية على مساجدنا تقول \"هذا مسجد لانصار الله فقط\" و \"هذا المسجد لأهل السنة و الجماعة فقط\" و \"لا مكان للروافض في هذا المسجد\" أو إن هذا مسجد زيدي و هذا مسجد سلفي و هذا مسجد شافعي، تماما كما كانت المطاعم و النوادي في أمريكا قبل حركة الحقوق المدنية في ستيات القرن الماضي تعلق على أبوابها لافتات عنصرية تقول: \"للبيض فقط\" أو \"لا كلاب أو سود أو مكسيكيين\".
هذه الاسئلة مدنية بحتة و النقاش الجاد و الغير منفعل حولها و الذي لا يتطلب التظاهر بعمى الألوان أو أننا جميعا من طينة واحدة أو لون واحد و على رأي واحد يعزز فرص وصولنا لحلول مرضية في الحد الأدنى للجميع.

أخيرا فإن واحدة من مداعي فخرنا كيمنيين -لا سيما نحن المغتربين في الخارج- عند الحديث عن التنوع و التسامح الديني أن مساجدنا في صنعاء و تعز و عدن و صعدة لا تكاد تختلف عن بعضها في شئ. يؤذن المؤذن فنذهب للصلاة: هذا يسربل و هذا يضم و هذا يؤمن و هذا يصمت و هذا يجمع الظهر و العصر من دون أن نشعر نحن بأي اختلاف.
هذا عنوان تسامحنا الديني و الدليل عليه، و أخشى إن استمرت خلافاتنا في المساجد و صراعاتنا عليها أن تختفي هذه الظاهرة الجميلة و أن لا يعود لدينا من دليل على التسامح و العيش المشترك سوى الكلام البائس الذي لا يصدقه الواقع.


في السبت 22 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 02:18:02 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=40651