الأرض اليباب .. المارشلات والفقهاء وجزر البشر!
د.مروان الغفوري
د.مروان الغفوري

الحوثي يسيطر على عمران منذ سنوات. إلى الـ 90% من مساحة المحافظة التي تخضع له، بالفعل، سيضم الـ10% المتبقية. قال موقع "أنصار الله" "إنه يوم تاريخي، أبناء عمران يستعيدون مدينتهم". أيضاً غمرت السعادة "الكتبة المأمورين الخونة" كما أسماهم جوليان بيندا قبل حوالي تسعين عاماً، وعاد إدوارد سعيد ليصفهم بالرهائن. أولئك الذين لأجل لقمة العيش تقمصوا دور المحللين السياسيين. ولم تكن تحليلاتهم سوى "بيع للخبرة التي يمتلكونها لسلطات بعينها".

الحوثي سيستكمل الحزام الجغرافي الذي يطمح إليه. في الفراغ بين الدولة والثورة يمكن لأي قوة منظمة أن تفعل الكثير. في مصر، مثلاً، تمددت حركة الإخوان المسلمين في ذلك الفراغ وحازت كل شيء تقريباً، من رئاسة الجمهورية حتى هجوم المنتخب المصري. ثم اختنقت فجأة بكل تلك اللقمة العظيمة، وانهارت.

بموازاة الفالق الفاصل بين الدولة والثورة نشأ فالق آخر بطول المجتمع. الحرب الأهلية تعمل على شق المجتمع طوليّاً على أساس طائفي وجهوي. الحوثي، قائد حركة أنصار الله، لا يكترث بما سيحدث في المستقبل. فهو يعتقد أن الأشياء الجيدة لم تحدث في الماضي، وأنه مهما أحدث من الشروخ والدمار فإن أحداً لن يبكي على الماضي. حتى فكرة الجمهورية نفسها لم تكن جمهورية بالمعنى الدقيق. فقد اشترط السلال، القائد العسكري، أن يصبح رئيساً مقابل مشاركته في الإطاحة بالنظام. انتقل الحكم من فقهاء المذهب، بعد ذلك، إلى المارشالات وصولاً إلى هادي. جمهورية المارشلات هي جمهورية زائفة منذ البداية. أما دولة الفقهاء، بما في ذلك دولة الفقيه الصغير عبد الملك، فهي بقعة سوداء في نسيج الحضارة الراهنة. الحضارة التي امتلك فيها الإنسان نفسه كلّياً، وبلغ كماله مع ظهور المواطن العالمي الذي يرى كل البلاد غريبة عنه، بتعبير هوجو، ويرى العالم سجناً كبيراً للمجانين، بتعبير سيوران.

ليحصل الحوثي على مدن المذهب التاريخية وعلى شعب المذهب التاريخيين. ما من جيش مصري سيتصدى لعودة دولة الملك الإله. هادي ليس عبد الناصر، والجيش اليمني، وأجهزة البوليس، صنعت على مدار السنين من شعب المذهب، أي من زيت الملكية وأحفورياتها. الخيانة ليست الكلمة المناسبة، الولاء هي الجملة الأنسب. يقاتل الحوثي في أرضه وبين جمهوره. تصدّت له ثلاث جهات مختلفة: القبائل خشية أن يصبح شيخاً على شيوخها. الإصلاح دفاعاً عن نفسه لأنه يعرف، كتيار ديني، أن الحوثي كتيار ديني أيضاً لن يقبل بوجوده. الأديان لا تتجاور فالرب "أ" لا يقبل أن يكون جاراً للرب "ب". هكذا على مدار التاريخ كانت كل جماعة تصنع ربّها، وبعد أن تستكمل بناءه تمتثل لأوامره! وفي العادة تكون تلك الأوامر منحصرة في ضرورة هدم بناء الرب الآخر.

الجهة الثالثة التي تقاتل الحوثي هي جهة بيروقراطية "الجيش". الجيش ليس نادياً للأبطال بل للموظفين. أما الجنود فلا يحملون السلاح ليتذكرهم التاريخ بل لأجل أن يحصلوا على لقمة الخبز ولأسرهم. الجهات الثلاثة، وهي تواجه الحوثي، قالت إنها تفعل ذلك لأجل الوطن. الحوثي أيضاً، وهو ينتصر، زف انتصاره للوطن. لكن الفالق الطولي الذي صنعته هذه الحروب حول البلدة إلى مجموعة من الجزر تتباعد شيئاً فشيئاً عن بعضها، وتصبح غريبة في محيطها. أي أن الوطن أصبح خلف ظهر هذه اللحظة التاريخية، لقد سقط كلّياً. لاحظوا أن التعاطف مع عمران يخفت كلما اتجهنا جنوباً أو شرقاً. فليست ثمة من صدى لأحداث عمران في المكلا أو المهرة، أو حتى في وادي تهامة. الوطن هو الضحية رقم واحد، أي اليمن التاريخي. أم الضحية الآخر فهو المجتمع نفسه، أي السلم الاجتماعي. هذا المجتمع الذي يقاتل بعضه بالوحشية المخيفة التي نراها هو مجتمع لا ينطبق عليه تعريف "الأمة". بمعنى آخر: سيتعذر علينا من الآن وصاعداً القول إن الشعب اليمني أمة واحدة. إذا استمرت الحروب في المستقبل، وهذا ما يبدو مؤكداً، فربما تعذر القول إن الأمم اليمنية بمقدورها أن تتجاور بلا حرب.

تحارب القاعدة باسم الله. يقاتل السلفيون باسم الله. يحارب الإصلاح باسم الله. يفجر الحوثيون المنازل والديار باسم الله. بندقية الله تملأ سماء اليمن الزرقاء. لا شيء في الأفق أكثر أهمية من بندق الإله. عندما تغفو هذه البندقية المقاتلة قليلاً يبرز إلى الواجهة جهتان: القوميون واليساريون متحدثين في مديح بعض بنادق الإله وهجاء بنادقه الأخرى. كذلك يخرج نادي علماء اليمن، بقيادة الزنداني، يهدد بمزيد من بنادق الإله إذا ما استجيب للعلمانيين فيما يخص شكل الدولة في المستقبل. لا يوجد علمانيون في اليمن. الجميع يصلي، الجميع يمسح الأحذية، بتعبير أدونيس في "أغاني مهيار الدمشقي". لكن، بالنسبة للزنداني، لا تبدو بحيرة بنادق الإله كافية. لا بد من المزيد من البنادق.

كلهم مجرمون، كلهم قتلة، باسم الرب. لقد اختفى الرب من سماء اليمن منذ زمن طويل فملئت بالأرباب المزيفين، الأرباب المسلّحين. الرب كلمة، والكلمة عزلاء، وفي البدء كانت الكلمة، وليس البندقية.

ليستعِد الحوثي مدن المذهب وشعب المذهب. هذه البلدة لن تشبع من الأساطير، ستثمل كل ليلة بضلالاتها. سيدة الأساطير هي الفكرة التي تقول إن الرب خلق عبدين، ومنح كل منهما بندقية، ثم وشوش كل منهما أن اقتل الآخر. يقرأ الحوثي والاشتراكي والإصلاحي والسلفي والقاعدي والقبيلي النص نفسه. كل منهما يستخرج منه العبوّة التي يريدها. لنكن عادلين: أما اليسار اليمني، القومي والماركسي، فلا يحب استخراج البارود من النصوص. يكتفي بالقول إن بعض الفتائل أخلاقية وبعضها لا أخلاقي. هو المعلم الذي لا يمارس الشذوذ مع التلاميذ بالمعنى الفيزيائي. يكتفي بالقول: يمتلك التلاميذ الذين في المؤخرة الحق في أن يغتصبوا زملاءهم الذين في المقدمة. ولكي يبدو واعياً بالمشهد فإنه يستشهد ببعض النصوص المقدسة.

الحوثي تقوده عجلته، ولا يقودها. تدله نيرانه، ولا يدلها. طاقة الكمون الخاصة بجماعته تكفي للسير بعض مئات الكيلومترات، لا أكثر. بسبب زيتها المذهبي الخالص، وبعدها السياسي الخاص، فهي ذات طاقة كمون محدودة. لا تكفي لجر عربته على طول شط ساحلي من 2400 كيلو متراً. لكنها تكفي للحيلولة دون ظهور الدولة الحديثة، الديموقراطية.

يستطيع الحوثي القول إنه قادر على توفير الأمن في مملكته، لكنه لن يوفر الحرّية، أي لن يسمح للإبداع والأسئلة والابتكار والتجارب الفردية بالنشوء والاكتمال. في مملكة الله تملك جماعة من الناس، جماعة صغيرة فقط، تحديد الطريقة التي ينبغي على الناس سلوكها. مملكة الرب لا تهيمن على الفضاء العام وحسب، بل على الخاص. مملكة الرب مملكة سوداء على الدوام، وجمهورية خوف لا حدود لجبروتها. ليس لأنها تستمد طاقتها من قوة القدير المهيمن. بل لأمر آخر، ذلك أنها تستخدم أكثر أدوات البطش وحشية مدعومة باعتقادها أن كل ذلك الجنون هو بالضبط مُراد الإله.

أصبح واضحاً أكثر من ذي قبل أن المجتمع في اليمن، في هذا الفراغ الحضاري والعدمية الحضارية، يتمايز إلى مجتمعات متناوئة ومتقاتلة. وأن كل قطاع من هذ المجتمع يرى أن أفضل طريقة للعيش هي أن يختفي القطاع الآخر. لكن ذلك لن يحدث، لن يختفي أي جزء من المجتمع من تلقاء نفسه. كما لا يملك أي قطاع الشجاعة الكافية للمكاشفة الذاتية ومراجعة الضلالات التي تملأ الكتب والرؤوس. لذلك، كما يحدث الآن، تسود علاقة البقاء للأقوى، شكل من أشكال تعايشات ما قبل التاريخ.

إن 62% أمّية ليست أمراً هيّناً. في هذه الخارطة السوداء تستطيع أكثر الأفكار جنوناً أن تنمو حتى الجلجلة. يستطيع نهر الجنون أن يجري كما يشاء. أما إذا شئنا للسخرية التاريخية أن تستكمل دورتها فعلينا أن نتذكر، في المستقبل، أن الديكتاتور صالح لم يكن رئيساً صالحاً. حتى هو يعتقد أنه لم يكن كذلك. لكن مهمته التي تمثّلت في الحيلولة دون أن يقضي قطاع من الشعب على القطاع الآخر ليست مهمة سهلة. وبالرغم من أنه كان في كثير من الأحيان مشعل حرائق إلا أن تلك الوظيفة للديكتاتور، أي حماية كل قطاع مجتمعي من مخالب القطاع الآخر، في بلد كاليمن هي من الوظائف التي سيحلم بها الناس في المستقبل. 


في الأربعاء 09 يوليو-تموز 2014 02:59:25 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=40086