نصف قرن من البحث عن دولة
نصر طه مصطفى
نصر طه مصطفى

خمسون عاما مرت على اندلاع شرارة أكثر الثورات إنسانية في التاريخ العربي المعاصر، فثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م كانت ثورة إنسانية في المقام الأول قبل أي اعتبار آخر، وكانت ضرورة لأسباب إنسانية قبل أي أسباب أخرى منفردة كانت أم مجتمعة، سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية أم اجتماعية أم تعليمية أم خدمية عامة أم كل ذلك... ويمكننا القول أن هذه الأسباب كلها مجتمعة وإلى جانبها أسباب أخرى شكلت بمجموعها البعد الإنساني لهذه الثورة، فمن المعلوم أن هناك ثورات تقوم لأسباب سياسية فقط وهناك ثورات تقوم لأسباب اقتصادية ومعيشية فقط وهناك ثورات تقوم لسببين أو ثلاثة أسباب، لكن الثورات التي قامت في العصر الحالي لكل تلك الأسباب مجتمعة هي في حكم النادر جدا، ومنها ثورة 26 سبتمبر التي انطلقت لإنقاذ شعب كامل من الجمود وإخراجه إلى رحابة الحياة وإدماجه في العصر... فقد كان الشعب في شمال اليمن يعيش حياة لا إنسانية تتصف بالجمود والموات والتخلف الشديد عندما قامت ثورة سبتمبر 1962م، وكل من شاهد الأفلام الوثائقية التي صورتها بعض البعثات الروسية والفرنسية خلال النصف الأول من القرن العشرين وكل من قرأ ما كتبه بعض الزوار العرب لليمن في ذات الفترة يدرك شيئا من ذلك، أما الذين عاصروا تلك الفترة من أبناء هذا البلد وبعضهم لازال حيا وبعضهم دونها في ذكرياته أو شهاداته فيتحدثون عن شعب كان يعيش خارج العصر... والمقارنة هنا ليست واردة مطلقا مع الدول الأوروبية بل يكفي لتأكيد مدى تردي ذلك الوضع المقارنة فقط مع دول عربية مثل مصر والعراق وسوريا ولبنان وغيرها فبينما كانت مصر على سبيل المثال تعيش أحد أزهى عصورها الثقافية والفنية والسياسية والتعليمية والاقتصادية كان هناك من أبناء اليمن الذين أتيح لهم معرفة اختراع الراديو من يعتقد أن الجن يعيش بداخله عدا من نالوا حظا من التعليم داخل اليمن وخارجه من جيل ثورة 48 ومن بعدهم والشباب الذين كان لهم الفضل في تفجير ثورة سبتمبر والدفاع عنها.

كان الخلاص من حكم الأئمة ضرورة إنسانية لإنقاذ الشعب اليمني، والمشكلة لم تكن متعلقة بعائلة بيت حميد الدين التي حكمت اليمن منذ أواخر القرن التاسع عشر فقد كانت هذه العائلة بكل سلبياتها هي أرقى مراحل حكم الإمامة لليمن وأقلها سوءا منذ بدأ عام 284 هـ ليتواصل بشكل متقطع حتى عام 1382هـ 1962م... فقد كانت مشكلة الأئمة مع هذا الشعب تتركز في الفلسفة التي انطلقوا منها في حكم اليمن وهي فلسفة ترتكز على رؤية عنصرية تمنح الحق المطلق في الحكم لكل من انتسب (للبطنين) - أي ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما - وتمنحهم الحق الأساسي في التعليم مع فئات محدودة في المجتمع اليمني على أسس طبقية بحتة بحيث تخدم حكمهم في النهاية، وفيما عدا ذلك فلا يجب أن يمتد حق التعليم لبقية أبناء الشعب... لذلك فرغم كل محاولات التطوير المحدودة جداً التي حاولت آخر أسرة إمامية حكمت الشمال أن تقوم بها في عهد الإمام أحمد حميدالدين إلا أنها لم تكن لتجرؤ على فعل ما هو أكثر ليس فقط لأنه يتصادم مع الفلسفة العنصرية التاريخية المستندة على قاعدة دينية مزعومة والتي تقتضي حرمان عامة الناس من الحياة الكريمة بكل تفاصيلها، بل أيضا لأن إعطاء الفرصة لعامة الناس لاكتساب الوعي ومعرفة العصر ونيل حقوقهم الطبيعية ستجعلهم ينقلبون عليهم، لأن تطوير الخدمات سيجعل الناس مع الوقت يبحثون عن حقوقهم السياسية ولن يقبلوا استمرار حكم قائم على أسس عنصرية مؤصلة يعطي الحق في الحكم لفئة واحدة دون بقية أبناء المجتمع... لذلك كان لابد من المخاطرة بقيام ثورة سبتمبر 1962م دون قلق من مخاوف الفشل الذي واجه ثورة 1948م الدستورية وانقلاب 1955م، فانطلق شباب الثورة من الضباط الأحرار بشجاعة وبسالة وفدائية لا نظير لها لإشعال ثورتهم الإنسانية النبيلة التي لازال البعض يعتبرها حتى اليوم مجرد حركة أو انقلاب، ووقف كبار الأحرار إلى جانبهم من جيل رواد الحرية رعيل ثورة 48 ومن تبعهم، وفيما تسلم الكبار الحكم وأعلنوا قيام النظام الجمهوري، فإن الشباب ذهبوا في كل اتجاه يدافعون عن الثورة ويدكون معاقل الإمامة أينما وجدت رغم قلة الإمكانيات وضعف الوعي الشعبي العام... وظلت الإمامة المتغلغلة في نفوس الجهلة من عامة الناس تقاوم لثمان سنوات كاملة قبل أن تنتهي نظاما ويبقى شيء من مخلفاتها الفكرية والثقافية إلى حين، فيما بدأ اليمنيون رحلة طويلة للبحث عن دولة العدل والحرية والمساواة والنظام والقانون التي ما كان يمكن لها أن تكون لو استمر حكم الأئمة العنصري!

عهد السلال (1962 - 1967)

اختار الضباط الأحرار المشير عبدالله السلال ليتولى رئاسة مجلس قيادة الثورة ومن ثم رئاسة الجمهورية العربية اليمنية، ورغم الإجماع على ضرورة الطلب من الزعيم الراحل جمال عبدالناصر إرسال قوات عسكرية مصرية تسهم في حماية الثورة أمام الهجمة الإمامية الشرسة المدعومة إقليميا إلا أن الخلافات سرعان ما دبت لاحقا داخل الصف الجمهوري حول حدود الدور المصري ما بين العسكري والسياسي... فهناك من كان يحبذ أن يقتصر الدور القومي المصري على الدعم العسكري دون التدخل في الشئون السياسية الداخلية اليمنية التي يستطيع اليمنيون إدارتها بدراية أكبر، وهناك من كان يجد نفسه مضطرا لقبول الدور السياسي المصري أو قدراً منه لتسهيل استمرار الدور العسكري الضروري الذي لولاه لسقط النظام الجمهوري في الشهور الأولى بسبب وقوف العديد من قبائل شمال الشمال مع الطرف الملكي... ولاشك أن تلك الخلافات في الصف الجمهوري قد أضعفته وزادت في قوة المقاومة الملكية طوال عهد المشير السلال الذي استمر خمس سنوات، فيما لم يكن هناك وقت بالمعنى الطبيعي يسمح بالعمل على بناء الدولة اليمنية المنشودة بسبب عدم توفر الاستقرار المطلوب لذلك، فجرى وضع أكثر من دستور في مراحل متعددة كما كثرت التغييرات والتعديلات الحكومية بشكل كبير التي كانت مؤشرا واضحا على حجم الخلافات القائمة.

جرت محاولات عبر عدد من المؤتمرات الشعبية لوضع أسس لدستور يعكس الهوية اليمنية كمؤتمر عمران الذي رأسه أبو الأحرار الأستاذ محمد محمود الزبيري عام 1963م ولاحقا مؤتمر خمر الذي انعقد عقب استشهاد الأستاذ الزبيري عام 1965م لكن أيا من تلك المشاريع لم يكتب له النجاح والاستمرار... ونتيجة لمؤتمر خمر الذي عمق الخلافات في الصف الجمهوري تدخل المصريون بعده بشهور قليلة لإقناع المشير السلال بالسفر إلى القاهرة والبقاء فيها حتى تهدأ الأجواء السياسية، وبالفعل ظل السلال في القاهرة ما يقارب عاما كاملا وكان ذلك من مظاهر التدخل السياسي المصري الصارخة في الشأن اليمني، وخلال غياب السلال تولت قيادة جماعية إدارة البلاد نيابة عنه، ورغم ذلك لم تنجح القوى الجمهورية في تجاوز مشكلاتها وخلافاتها أو حسم مواجهاتها مع الملكيين أو وقف الحرب والتوصل معهم إلى مصالحة كما حدث في مؤتمر حرض أواخر عام 1965م الذي انعقد بين الطرفين الجمهوري والملكي برعاية مصرية سعودية، ورغم فشله إلا أنه أسس لقاعدة سياسية لأي مصالحة مستقبلية تقوم على إنهاء أي دور مستقبلي لبيت حميدالدين في الحياة السياسية اليمنية، على أساس استقرارهم نهائيا في المملكة العربية السعودية... وقد ظل المبدأ قائما حتى تحقيق المصالحة الوطنية عام 1970م على أساسه.

وبعد ما يقارب العام من غيابه قرر السلال العودة إلى صنعاء عام 1966م وهو ما كان بالفعل فقررت القيادات الجمهورية المناهضة له وفي مقدمتها القاضي الإرياني والأستاذ النعمان التوجه إلى القاهرة للتفاهم مع الرئيس عبدالناصر على حل سياسي ينهي دور السلال ويحافظ على استمرار الدعم العسكري المصري لكن المفاجأة تمثلت في قيام الحكومة المصرية باعتقال الوفد اليمني كاملا وأودعته سجونها عدا شخصيتين أو ثلاث وضعتها تحت ما يشبه الإقامة الجبرية واستمر هذا الوضع الفج عاما كاملا حيث لم يفرج عن القادة اليمنيين إلا بعد نكسة 5 يونيو 1967م التي قررت مصر إثرها سحب قواتها من اليمن... ورغم كل تلك الخلافات السياسية الكبيرة داخل الصف الثوري إلا أن المكسب الأهم الذي تحقق في عهد المشير السلال هو صمود النظام الجمهوري واستمراره وتطور وعي اليمنيين خلال سنوات حكمه الخمس بأهمية الثورة لحاضرهم ومستقبلهم وأنها المدخل الصحيح لبناء الدولة العصرية الحديثة التي تقوم على سيادة القانون، وترسخت هذه القناعة مع البدء في توسيع الخدمات من تعليم وصحة وغيرها، وهي على ضآلتها فإنها عدت شيئا كبيرا بالمقارنة إلى انعدامها شبه التام في عهد الأئمة، ومع مضي عام وراء آخر من الصمود الجمهوري الأسطوري كانت آمال الأئمة بالعودة للحكم تتضاءل شيئا فشيئا إلى أن جاءت آخر محاولاتهم اليائسة خلال حصار صنعاء لمدة سبعين يوما أواخر العام 1967م.

عهد الإرياني (1967 - 1974)

عاد الوفد الجمهوري المعتقل من القاهرة في شهر أكتوبر 1967م إلى مدينة الحديدة حيث عقد عدة لقاءات مع الرئيس السلال الذي أدرك أن عهده على وشك الأفول وأن واجبه أن يتيح الفرصة لزملائه في النضال من القادة الجمهوريين لإدارة شئون البلاد وقال لهم وهو على وشك مغادرة اليمن بداية شهر نوفمبر في جولة خارجية كان يعلم أنه لن يعود بعدها (أهم من رئاسة الجمهورية الحفاظ على الجمهورية)... وفي الخامس من نوفمبر 1967م انطوى عهد المشير عبدالله السلال من خلال حركة بيضاء قادها تحالف جمهوري كان السلال على يقين أنها ستحدث عاجلا أم آجلا ففضل الخروج من اليمن لتوفير فرص النجاح للحركة وتجنيب الصف الجمهوري الدماء والمزيد من الانشقاقات... وهذا كان سلوك القادة الجمهوريين الأوائل فقد نشأوا على أن السلطة مغرم لا مغنم، وكان لديهم زهد كبير فيها خاصة إن كان بقاؤهم فيها سيؤدي إلى ضرر عام، ولذلك لم يتنفعوا بالمال العام ولم يعرفوا للفساد طريقا وعاشوا وهم في الحكم حياة بسيطة متواضعة... فالسلال خرج من السلطة لا يمتلك سوى منزله القديم منذ ما قبل العهد الجمهوري، ولولا تبني الرئيس عبدالناصر لكل متطلبات إقامته في منفاه الإجباري في القاهرة لما وجد ما ينفقه، وظل كذلك حتى تم إقرار راتب شهري له من حكومة صنعاء كان بالكاد يكفي لسد احتياجاته الضرورية في منفاه فلا أرصدة ولا استثمارات ولا صفقات خرج بها من الحكم وهذا كان حال الرئيسين اللذين حكما بعده وهما القاضي عبدالرحمن الإرياني والمقدم إبراهيم الحمدي فلم يكونا أقل من السلال زهدا ونظافة يد وضمير ولم يتركا وراءهما ثروة من أي نوع.

كان القاضي عبدالرحمن الإرياني رغم أنه شخصية مدنية بامتياز محل إجماع كل القوى الوطنية ليرأس الدولة خلفا للمشير السلال، إذ لم يكن لدى العسكريين تلك الفترة أية طموحات في الاستيلاء على السلطة أو كانوا يعتبرون أنها حقا مشروعا لهم، وقد كان بإمكانهم ذلك لكن القيم النبيلة التي حكمت ذلك الصف الجمهوري مدنيين وعسكريين جعلتهم يترفعون عن مثل تلك الطموحات ويزهدون في السلطة، وعلى سبيل المثال فقد كان الفريق حسن العمري القائد العسكري القوي في عهد الإرياني باعتباره القائد العام وبطل الجمهورية في مقاومة حصار السبعين لكنه لم يفكر يوما بالانقلاب على المشير السلال عندما كان نائبا له ولا على القاضي الإرياني بل إنه ترك موقعه السياسي والعسكري بكل بساطة عندما طلب منه ذلك عقب تورطه في مقتل مواطن عادي في قضية شهيرة ولم يتمرد رغم قدرته على ذلك وكاريزميته المعروفة في أوساط الجيش بل إنه طلب من الرئيس الإرياني الانتقال إلى الحديدة خلال فترة الحصار باعتباره يمثل رمز الشرعية من باب الاحتياط في حال سقوط صنعاء بيد الملكيين.

ومع اندحار حصار السبعين في فبراير 1968م ترسخت قواعد النظام الجمهوري وغلب اليأس على بقايا القوات الملكية في إمكانية تحقيق أي نجاح عسكري، وبدأ القاضي الإرياني بعدها في محاولات لم الصف الجمهوري ونجح بهيبة شخصيته في استقطاب العديد من العناصر الملكية إلى الصف الجمهوري وإنهاء تمردها منطلقا من أنه قد آن الأوان للشروع في بناء الدولة اليمنية الحديثة... ولذلك تم تشكيل المجلس الوطني في عام 1969م برئاسة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ليقوم بوضع مشروع الدستور الدائم للبلاد والذي على أساسه سيتم انتخاب أول مجلس نيابي، فيما تجري ترتيبات سرية على قدم وساق لإنجاز مصالحة وطنية مع القوى الملكية على قاعدة استبعاد (بيت حميدالدين) من المشهد السياسي كاملا، وكان للعاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز دورا مقدرا في تحقيق هذا الإنجاز اليمني الهام عام 1970م، وبموجب اتفاق المصالحة الوطنية تم تمثيل أحد رموز القوى الملكية (الأديب والمفكر أحمد الشامي) في المجلس الجمهوري الذي يرأسه القاضي عبدالرحمن الإرياني وهو السلطة العليا في البلاد، وكذلك ما بين ثلاثة إلى خمسة وزراء في الحكومة وعدد أكبر من الشخصيات الملكية في عضوية المجلس الوطني، وبالطبع على أساس اندماج الملكيين كلياً في إطار النظام الجمهوري... وهكذا لم تنطو صفحة العام 1970م إلا وقد تم إقرار أول دستور دائم للبلاد وتم انتخاب أول مجلس شورى أوائل العام التالي قام بدوره بانتخاب أعضاء المجلس الجمهوري وكانوا عادة لا يقلون عن ثلاثة ولا يزيدون عن خمسة... وكانت تلك الخطوات الأولى للبناء المؤسسي للدولة خاصة أن جميع أعضاء المجلس الجمهوري كانوا شخصيات مدنية باستثناء الفريق العمري الذي ترك عضويته في نفس العام بسبب قضية مقتل المواطن المشار إليها قبل قليل ليجري انتخاب القاضي عبدالله الحجري عضوا في المجلس الجمهوري بدلا عنه.

وخلال السنوات الثلاث التي تبقت من عهد القاضي عبدالرحمن الإرياني لم يتح له المضي في بناء دولة القانون بسبب الخلافات مع مراكز القوى المشيخية التي كانت تعتبر نفسها وصية على الحكم نتيجة نفوذها الاجتماعي والعسكري، وكانت ترى دوما أنه لا ينبغي أن يكون للرئيس الإرياني رأيا في مطالبها أو توجهاتها... ناهيك عن خلافاتها معه بشأن العلاقات مع الشطر الجنوبي ففيما كان يرى ضرورة وجود علاقات طبيعية مع الجنوب تؤدي مع مرور الوقت ونضوج هذه العلاقة إلى استعادة وحدة اليمن يوما ما، فإنها كانت تعتبر أن ماركسية النظام في عدن تجعل منه عدوها الأول، ومن هنا تصاعدت الخلافات بين الشطرين حتى انفجرت الحرب بينهما في سبتمبر 1972م والتي لم تتوقف إلا بعد تدخل عربي أدى إلى توقيع أول اتفاقيتين للوحدة حيث وقع أولاهما رئيسا وزراء الشطرين محسن العيني وعلي ناصر محمد في شهر أكتوبر من نفس العام بمقر الجامعة العربية بالقاهرة ليعقبها بشهر واحد توقيع ثانيتهما في العاصمة الليبية طرابلس بين رئيسي الشطرين القاضي عبدالرحمن الإرياني وسالم ربيع علي وهي التي استندت عليها كل المفاوضات الوحدوية لاحقا... ومنذ ذلك الحين جرت محاولات عدة من قبل مراكز القوى تلك لإسقاط اتفاقية الوحدة وإسقاط حكم القاضي الإرياني الذي حاول بدوره تقديم استقالته أكثر من مرة لتجنيب اليمن المزيد من الاحتقانات لكن الطبخة المشيخية لم تكن قد نضجت بعد للتخلص من أول وآخر حكم مدني في شمال اليمن... وهكذا استغرق الترتيب لاستبعاد القاضي الإرياني من الحكم ما يقرب من عام ونصف بغرض البحث عن البديل المناسب والشكل المناسب للحكم خلال المرحلة القادمة في تحالف غريب مشيخي عسكري ذو ولاء سعودي بعثي عراقي، واستمرت الترتيبات لتصل الذروة في 13 يونيو 1974م.

عهد الحمدي (1974 - 1977)

لم يكن المتآمرون على القاضي عبدالرحمن الإرياني يدركون وهم يختارون العقيد إبراهيم الحمدي كواجهة لحكمهم الجديد أنهم قد اختاروا - دون قصد طبعا - القضاء على نفوذهم الاستثنائي غير المحدود إلى الأبد، فبقدر استضعافهم لشخصية الحمدي الذي جاء من أسرة علم وقضاء بدون قاعدة مشيخية ولا عسكرية فإن الرجل أذاقهم المرارة لاحقا وحجم نفوذهم السياسي بطريقة غير مسبوقة في تاريخ اليمن المعاصر... فقد تم ترتيب قرار الانقلاب على حكم القاضي الإرياني في اليوم الذي تصادف فيه سفر القائد العام للقوات المسلحة العقيد محمد الإرياني ورئيس هيئة الأركان العامة العقيد حسين المسوري خارج البلاد في زيارتين رسميتين وسفر عضو المجلس الجمهوري القوي القاضي عبدالله الحجري في زيارة خاصة إلى الخارج، حيث جرى الضغط على القاضي الإرياني لتقديم استقالته وأعضاء المجلس الجمهوري إلى مجلس الشورى، وهي لحظة كان ينتظرها على أحر من الجمر فالرجل كان زاهدا في الحكم وكان يرى أن استمرار الخلاف بينه وبين مراكز القوى في القبيلة والجيش أصبح يشكل ضررا على البلاد، وأن مشروع البناء المؤسسي للدولة قد تم إجهاضه فعليا بسبب ذلك النفوذ الخارج عن القانون، ولذلك فمن الخير له أن يترك السلطة وعلى مجلس الشورى المنتخب أن يختار مجلسا جمهوريا جديدا... وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان فقد تم اختراق نصوص الدستور الدائم ومخالفتها كليا فبدلا من أن يدعو رئيس مجلس الشورى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر إلى جلسة استثنائية للمجلس لانتخاب مجلس جمهوري جديد قام بتوجيه استقالته من منصبه كرئيس للمجلس إلى العقيد إبراهيم الحمدي نائب القائد العام للقوات المسلحة حيث كان قادة الجيش الموالين للشيخين عبدالله الأحمر وسنان أبو لحوم على أهبة الاستعداد لتشكيل مجلس قيادة عسكري لتولي زمام السلطة برئاسة الحمدي الذي تم اختياره بعناية من قبل ذلك التحالف رهانا منه على ضعف شخصيته وقدرتهم على تحريكه كما يريدون باعتباره مجرد واجهة لحكمهم... لكن رياح الحمدي أتت بما لم تكن تشتهيه ولا تتوقعه سفن التحالف المشيخي العسكري، فكان الندم الشديد الذي أبداه الشيخان في مذكراتهما لاحقا على تآمرهما ضد شخص وحكم القاضي عبدالرحمن الإرياني.

كان الرئيس إبراهيم الحمدي بحكم نشأته شخصية مدنية بطبيعته رغم انتمائه المتأخر للسلك العسكري، وامتلك شخصية كاريزمية لقيت بسرعة مذهلة حب اليمنيين بسبب تواضعه وبساطة شخصيته وقراراته وقدرته الخطابية المدهشة إضافة إلى أن صغر سنه واتساع ثقافته جعل الناس يأملون أن يحدث الكثير من التطور والاستقرار على يديه... إلى جانب ذلك فقد كان لدى الرجل بحكم تعليمه وثقافته رؤية في عملية البناء المؤسسي للدولة لكنه وهو الذي كان مطلعا على كل خفايا الصراع في عهد القاضي الإرياني لم يكن على استعداد لأن يسمح لذات القوى التي عبثت في عهد سلفه أن تعبث في عهده وتحول دون المضي في البرنامج الذي يطمح إليه لبناء الدولة... وهكذا لم يمض عام وبضعة شهور من قيام حركة يونيو حتى كان الحمدي قد استبعد كل عناصر التحالف المشيخي العسكري الذي جاء به إلى السلطة، لكن الوضع ظل متوترا بسبب سيطرتهم على كثير من المناطق التي تقع شمال العاصمة صنعاء، إلا أنهم حرصوا بقدر حرص الرئيس الحمدي على استمرار التفاوض فيما بينهم سعيا للوصول إلى حلول مرضية لكل من الطرفين لكن الحمدي كان يدرك أن أية حلول لن تكون إلا على حساب مشروع دولة النظام والقانون... وكانت النقطة القاصمة لذلك التحالف أن توجهات الحمدي في بناء دولة قانون لقيت دعما إقليميا ودوليا، فقد فضلت المملكة العربية السعودية الانحياز إليه وإلى مشروعه باعتباره سيحقق قدرا من الاستقرار الذي ترجوه لدى جارتها الجنوبية بما يمكن اليمن الشمالي من بناء قدراته المختلفة التي ستساعده - بحسب رؤية الرياض والغرب - على مواجهة أية أطماع أو مخاطر سوفيتية شيوعية في منطقة الجزيرة والخليج يمكن أن تأتي من جنوب اليمن المنضوي في المنظومة الشيوعية الدولية... ومع ارتياح الرئيس الحمدي لهذا الانحياز الإقليمي له إلا أنه كان يرى أن تخفيف أية مخاطر يمكن أن تأتي من الجنوب يجب أن تتم من خلال التقارب معه وليس معاداته، وأن التقارب مع الجنوب واحتوائه سيساعده أيضا على بناء الدولة، ولذلك قام بدور هام في التقارب بين الرياض وعدن ونجح في إقناعهما بإقامة علاقات دبلوماسية بينهما والترتيب لزيارة رسمية قام بها الرئيس سالم ربيع علي إلى الرياض في عام 1976م.

مع تحول صورة إبراهيم الحمدي من مجرد قائد صوري لانقلاب مشيخي إلى قائد سياسي يمتلك مشروعا كبيرا لبناء دولة عصرية حقيقية كانت شعبيته تتزايد، ومع اختياره لأول مرة منذ قيام ثورة سبتمبر رئيس حكومة من فئة التكنوقراط الاقتصاديين هو عبدالعزيز عبدالغني لاحت للمواطنين مؤشرات أكثر إيجابية بأن اليمن بدأ يخرج فعليا من تحت عباءة مراكز القوى التقليدية والشخصيات السياسية التاريخية التي كانت تتناوب بشكل أو بآخر على تولي أهم المناصب القيادية في الدولة... وكان اختيار عبدالغني في 25 يناير 1975م لرئاسة الحكومة دلالة على أن هناك رغبة جادة لدى الرئيس الشاب في أن تدخل البلاد مرحلة التنمية الحقيقية خاصة أن الاحتياطيات النقدية في عهده تزايدت بشكل كبير من تحويلات المغتربين، وبدأت العديد من المشروعات الطموحة في التنفيذ فيما كان بعضها قيد الإعداد والتخطيط ورأت النور في العهدين التاليين لعهده... ومع نجاح خطوات التنمية فإن المشروع السياسي للحمدي لم يجد الوقت الكافي ليتبلور كما كان يريده هو باعتباره صاحب فكرة المؤتمر الشعبي العام التي كان يريدها مدخلا لوضع أسس جديدة للدولة نظريا ومؤسسيا... إلا أن اتفاق قعطبه الذي عقدة مع الرئيس سالمين في فبراير 1977م أثار ريبة الرياض والعديد من الأطراف المؤثرة في الداخل فتوترت علاقته بالرياض في الشهور الثلاثة الأخيرة من حكمه... ويبدو أن القادة العسكريين الذين أعطاهم ثقة غير مستحقة رغم عدم تأهيلهم التعليمي قرروا التقاط كل تلك الأجواء غير المريحة التي أحاطت بالرئيس الحمدي فتآمروا عليه وقاموا بتصفيته بأبشع صورة ممكنة، إذ لم تكن ثقافة الانقلاب الدموي موجودة فكما رأينا أن حركتي 5 نوفمبر 1967م و 13 يونيو 1974م اتسمتا بالبياض وتجنب التصفيات الدموية... لكن انقلاب 11 أكتوبر 1977م الذي استهدف الرئيس الحمدي كان مأساوياً بكل ما تعنيه الكلمة، إذ كان الانقلابيون يخشون شعبيته من ناحية، ناهيك عن أن تدني مستوياتهم الثقافية والتعليمية والعلمية حال دون امتلاكهم للثقة بأنفسهم في إمكانية نجاحهم في إدارة انقلاب أبيض على قائد كالحمدي من ناحية ثانية، فدفع الحمدي ثمنا باهظا لواحد من أفدح أخطائه بمنح الثقة لمن ليس أهلا لها... وبالتأكيد لم يكن هناك سببا وطنيا واحدا يبرر الانقلاب حتى لو كان انقلابا أبيضا، أما وقد تم تنفيذه دمويا فإن ذلك كان أمرا صادما للمواطن اليمني الذي لم يكن قد عرف هذا النمط من الانقلابات الدموية اللاأخلاقية، ناهيك عن أنه كان لتوه بدأ في تذوق حلاوة الاستقرار وقدر معقول من مؤشرات الرخاء... وفي كل الأحوال فقد دخل اليمن الشمالي منذ تلك اللحظة المشئومة في مخاض صعب في ظل حكم رفيقي الرئيس المغدور المقدم أحمد الغشمي ومن بعده المقدم علي عبدالله صالح... ومع رحيل الحمدي انطوى إلى حين ملف البناء المؤسسي للدولة، فالواضح أن هذا الملف كان أبعد ما يكون عن اهتمام خليفتيه كما أكدت ذلك الأحداث لاحقا.

عهود صالح الثلاثة (1978 - 2012)

ليس هناك ملمح مميز لعهد الرئيس المقدم أحمد الغشمي سوى أنه بدا كما لو أنه مجرد محطة ترانزيت هيأت كل متطلبات السلطة المنفردة لمن جاء بعده... فقد نصحه بعض الساسة الموجودين في العديد من مفاصل الدولة بإصدار إعلان دستوري يتم بموجبه إنشاء برلمان معين لسد الفراغ التشريعي الناتج عن انتهاء فترة مجلس الشورى المنتخب، وليكون إنشاء هذا البرلمان الذي تم تسميته (مجلس الشعب التأسيسي) سببا في قيامه بالمبادرة باقتراح إلغاء صيغة (مجلس القيادة) كأسلوب حكم جماعي واستبدالها بصيغة (رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة) وهو ما يعني تكريس حكم العسكر إذ يصعب على أي مدني أن يكون رئيسا للجمهورية وفي نفس الوقت قائدا عاما للقوات المسلحة باعتبار منصب (القائد العام) منصبا فنيا لا يشغله إلا عسكري على خلاف مسمى (القائد الأعلى) الذي هو منصب دستوري رمزي يشغله قادة الدول في العالم كله... وهذا ما كان بالفعل فقد أنشأ الغشمي مجلس الشعب التأسيسي في فبراير 1978م من تسعة وتسعين عضوا اختاروا القاضي عبدالكريم العرشي رئيسا لهم والذي بدوره - أي المجلس - ألغى صيغة مجلس القيادة في شهر إبريل واستبدلها بالصيغة المذكورة آنفا وقام على الفور بانتخاب الغشمي رئيسا للجمهورية وقائدا عاما... وكان ذلك بالتأكيد أحد أسباب غضب عضو مجلس القيادة الوحيد وقائد المظلات الرائد عبدالله عبدالعالم وخروجه من صنعاء لتتطور الأحداث حينها كما هو معلوم... فيما لم يتمتع الغشمي سوى شهرين أو أقل بالمسمى الجديد ليلقى حتفه صبيحة يوم السبت 24 يونيو 1978م بالحقيبة الملغومة التي أرسلت إليه من قيادة الشطر الجنوبي كما قيل حينها.

العهد الأول لصالح (1978 - 1990)

في 17 يوليو 1978م اجتمع مجلس الشعب التأسيسي ليختار المقدم علي عبدالله صالح رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة، بعد أن شغل لأسابيع ثلاثة عقب مقتل سلفه منصب عضو مجلس رئاسة الجمهورية المؤقت ونائب القائد العام ورئيس هيئة الأركان العامة... كان كل شيء مهيأ للقائد الشاب ليتولى موقعه الرفيع سواء من حيث سيطرة الضباط المنتمين لقبيلته (سنحان) على أهم المواقع العسكرية والسيادية في العاصمة صنعاء، أو من حيث تفضيل المملكة العربية السعودية له على أي مرشح آخر عسكريا كان أو مدنيا، أو من حيث قوة شخصيته إذا ما قورنت بالمقدم علي الشيبه الذي تولى بصفة مؤقتة منصب القائد العام للقوات المسلحة... كل الظروف تهيأت لعلي عبدالله صالح لتولي رئاسة البلاد فيما لم يكن يخطر ببال أحد من الساسة أو القادة حينها أن حكم هذا الرجل سيمتد لثلث قرن، فتعقيدات وصعوبة أوضاع اليمن الشمالي حينها لم تكن ترشحه للاستمرار سوى بضعة شهور أو أكثر قليلا.

خابت تلك التوقعات فكما يبدو أن الرجل قد تعلم كثيرا من تجربتي سلفيه من ناحية ثغراتهما الأمنية، ناهيك عن أن اقترابه من الساسة في ظروف مختلفة على امتداد السنوات الست السابقة - على الأقل - من توليه الحكم قد أفاده كثيرا... وإلى جانب كل ذلك فإن قضاءه ثلاثة أعوام قائدا عسكريا لمحافظة تعز أعطاه دروسا عملية في السياسة باعتبار تعز حينها كانت تعج بحراك سياسي كبير متعدد الاتجاهات وكان صالح قريبا من الجميع يتعامل ويتعلم منهم بهدوء... وهكذا شاءت إرادة الله تعالى أن يؤتيه ملكا لم ينبغ لأحد قبله - في العصر الحديث - سواء في اليمن المشطر أو الموحد... وبحسب وصف الأستاذ البردوني في كتابه (اليمن الجمهوري) أن (علي عبدالله صالح جاء إلى الرئاسة من أنقى الشرائح الشعبية ومن أكثرها إنتاجا لأنه من طبقة الفلاحين الذين عجنت تربتهم أنامل الأشعة وقبلات المطر)... فإن صالح لم يحظ بالقدر الكافي من التعليم إذ لم يزد الأمر عن مبادئ القراءة والكتابة كما كان حال معظم مجايليه الذين جاءوا من ذات البيئة، ولم تهتم أسرته سوى بإلحاقه بالتجنيد لتوفير مصدر عيش وهذا كان شيئا طبيعيا في مثل تلك الظروف القاسية قبل ثورة سبتمبر، لكن صالح الذكي ظل يتعلم كل يوم إلى أن أصبح رئيسا، ويؤكد كل من عملوا معه في سنوات حكمه الأولى أنه كان حريصا دائما على الاستفادة من جلسائه وفيهم علماء ومثقفين كبار وساسة واقتصاديين وغير ذلك، الأمر الذي جعله يعوض نقص المعارف لديه إلى حد ما ومكنه من أن يتطور بسرعة سواء في خطاباته أو أدائه السياسي... والمؤكد في رأيي أن سنوات حكمه العشر الأولى هي الأفضل على الإطلاق ويمكن مدها لتشمل العامين الأخيرين قبل الوحدة كذلك، فلعله خلالها جسد وصف البردوني له، والأفضلية المقصودة هنا هي نسبية بكل تأكيد ولا تعني أنه كان القائد المثالي حينها كما أنها لا تعني أنه أفضل ممن سبقوه لكنها تعني تحديدا أنها أفضل من سنوات حكمه الباقية التي تلتها، فقد كان البلد مليئا حينها بالكثير من الشخصيات القادرة على ملء الفراغ بشكل أفضل لكنه كان اختيار الأقدار ولاشك أنه رغم كل سلبياته نجح في العبور حينها باليمن الشمالي من بحر متلاطم الأمواج إلى شاطئ الاستقرار... كما أنه رغم غياب المشروع المؤسسي في ذهنيته إلا أنه كان أكثر استشارة للرجال المحيطين به وكان يأخذ بالآراء الجيدة ما لم تتصادم مع أهداف سياسية معينة تخدم استمراره في الحكم، وقد ساعدته صفاته الشخصية الإيجابية في استيعاب متطلبات تلك المرحلة سواء الحوار الوطني أو التقارب مع التيارات السياسية أو تجاوز محنة الحرب والصراع مع الجنوب إلى فتح آفاق جيدة للحوار والتفاهم معه أو إقرار الميثاق الوطني وإنشاء المؤتمر الشعبي العام الذي كان مشروع الرئيس الحمدي، أو الاستمرار في عملية التنمية أو استخراج النفط أو استعادة استقلال القرار الوطني إلى حد كبير، أو تقنين أحكام الشريعة الإسلامية أو استعادة الحياة الدستورية من خلال العودة للعمل بالدستور الدائم وإجراء انتخابات مجلس الشورى عام 1988م، أو الاستمرار في تقليص نفوذ مراكز القوى المشيخية لكن من خلال استيعابها وترويضها وليس التصادم معها... لذلك يمكن القول بثقة أن سنواته الإثني عشر الأولى هي أفضل سنوات حكمه الثلاثة والثلاثين على الإطلاق خاصة مع تتويجه لها بالسعي مع الحزب الاشتراكي اليمني وتحديدا أمينه العام علي سالم البيض لاستعادة وحدة اليمن أرضا وشعبا، ولاشك أن الروح المثالية التي سادت في تلك السنوات لدى كثير من قادة ومسئولي الدولة والحكومة والتي كانت امتدادا لروح الثورة والنضال والصدق والإخلاص في بناء اليمن كانت تنعكس بشكل أو آخر على شخص الرئيس علي عبدالله صالح... ومن يبحث عن أحوال معظم الوزراء ومسئولي الدولة الذين عملوا معه تلك الفترة سيجد أنهم كانوا يعيشون بمستويات مادية عادية بعيدا عن أي بذخ أو فساد أو أطماع وظل ذلك هو حالهم حتى الآن، بل لعل بعضهم للأسف الشديد بالكاد يجد اليوم ما يكفيه لأنهم تربوا على حرمة المال العام واحترام الوظيفة العامة والصدق والإخلاص في العمل... والأكيد أن صالح ذهب إلى الوحدة في نهاية سنوات حكمه الإثني عشر لجمهورية سبتمبر دون أن يكون قد قطع أي شوط يذكر في التأسيس لبناء دولة تقوم على سيادة القانون وديمقراطية حقيقية وسلطات مستقلة عن بعضها البعض.

العهد الثاني لصالح (1990 - 1997)

بدون الحاجة للتشكيك في صدق نوايا الذين أعادوا لليمن وحدته فإنهم لم يحسنوا بالتأكيد رعاية هذا المولود الذي جاء بعد قرون من التمزق والتشطير والفتن والصراعات والمواجهات، فما أن خرج هذا المولود إلى الدنيا حتى بدأت الخلافات بين الشريكين على أسلوب رعايته إذ لم يكونا بالتأكيد بمستوى روعته ولهفة الناس إليه... فالشكوك أخذت تنمو شيئا فشيئا والاعتبارات الذاتية أخذت تتغلب على الروح الجميلة التي قبلت بالتنازلات من أجل استعادة الوحدة... ويصعب علينا اليوم وقد ذهب صالح أن نرمي باللائمة عليه وحده في الخلافات والنزاعات التي حدثت خلال السنوات السبع الأولى من عهد الوحدة سواء منها سنوات الفترة الانتقالية الثلاث الأولى أو عام الأزمة والحرب أو السنوات الثلاث التي اتسمت بالائتلاف الثنائي مع الإصلاح... فبالتأكيد أن صالح لم يكن متفردا بالقرار خلال تلك السنوات، وإن اتسعت مساحة اتخاذ القرار لديه أكثر بكثير في فترة الائتلاف الثنائي مع الإصلاح لأسباب لا تخفى على لبيب... والمهم أنه يمكننا القول أن كل شيء كان حاضرا خلال تلك السنوات السبع عدا مشروع بناء الدولة الجديدة بل إن مجرد الرؤية النظرية لذلك لم تتوفر، فدستور دولة الوحدة كان دستورا تلفيقيا لا يصلح لأن تبنى عليه دولة عصرية ديمقراطية تعددية... ومن المفارقات الغريبة أن الآمال التي علقها الشماليون على الحزب الاشتراكي في مسألة بناء الدولة كصاحب تجربة في بناء دولة حكمها بالقانون بعيدا عن الاستثناءات - رغم قصورها وسلبياتها واقتصادها الاشتراكي - تبخرت مع انشغال الحزب فيما يمكن اعتباره الدفاع عن وجوده السياسي وكيانه الحزبي، وبالمقابل فإن الجنوبيين الذين كانوا يعلقون الآمال على الرئيس صالح لانتشالهم مما كانوا فيه من الأوضاع الصعبة معيشيا وتنمويا خابت ظنونهم سواء خلال سنوات الفترة الانتقالية أو بعد تفرده بالحكم فقد اعتقدوا - وهو اعتقاد صحيح - أن الرخاء وفرص الحياة الأفضل ستأتي مع الوحدة بعيدا عن النظام الاشتراكي لكن لا هذا تأتى ولا ذاك حصل ناهيك عن أن الوحدة ليست مسئولة عنه!

وبدأ لدى الحزب الاشتراكي إحساس بخطر حقيقي وجاد من أن يتم مغالبته ديمقراطيا عقب الانتخابات النيابية التي جرت في إبريل 1993م وحصل بموجبها على 68 مقعدا - متضمنة المستقلين الذين ينتمون إليه - من إجمالي 301 مقعدا، بينما حظي المؤتمر والإصلاح مجتمعين على أكثر من مائتي مقعد في مجلس النواب... وفيما بدأ الحوار الثلاثي عقب الانتخابات حول التعديلات الدستورية فإن عوامل الخلاف تأججت حول المواد المتعلقة بوضع رئاسة الدولة لتسفر عن أزمة سياسية لم يكن أحد يتوقع أن تتعقد إلى حد تنغلق معه كل أبواب الحلول وتنفتح أبواب الحرب... ومن الصعب هنا القول أن الطرفين لم يكونا يريدان الحرب فكلاهما استعد لها بطريقته ومبرراته، وكان الدفاع عن الوحدة مبرر الأول واستعادة دولة الجنوب مبرر الثاني، وفيما كانت صفقات السلاح الحديثة الممولة إقليميا تصل تباعا إلى المجموعة الانفصالية بقيادة البيض كان الطرف الشمالي المتحالف مع مجموعة الرئيس السابق علي ناصر محمد الشهيرة (بالزمرة) يستعد لتفجير الحرب قبل أن تستكمل مجموعة البيض استعداداتها، وهو ما كان بالفعل في مساء الأربعاء 4 مايو 1994م، ومضت الأمور كما هو معروف حتى انتهت الحرب يوم 7 يوليو بانتصار تحالف المؤتمر والإصلاح والزمرة، ولاشك أن دخول (الزمرة) في المعركة وقيادة العميد عبدربه منصور هادي وزير الدفاع حينها لها أنهى الصفة الشطرية عن الحرب وأعطاها طابع الدفاع عن الوحدة فعليا خاصة أن المواطنين في الجنوب وقفوا على الحياد خلالها... وعقب انتهاء الحرب شرع النظام القائم في إجراء التعديلات الدستورية التي ألغت صيغة مجلس الرئاسة وأعطت صالح السلطة كاملة من خلال منصب رئيس الجمهورية، وجرى تعيين وزير الدفاع عبدربه منصور هادي نائبا لرئيس الجمهورية وتشكلت حكومة ائتلاف ثنائية مؤتمرية إصلاحية برئاسة عبدالعزيز عبدالغني... وخلال ما تبقى من الفترة الدستورية لمجلس النواب والحكومة الثنائية وهي عامين ونصف أعاد الرئيس صالح ترتيب الكثير من الأوضاع العسكرية والأمنية وتركيزها في أيادي أقاربه والمقربين من أبناء قريته ومديريته فيما جرى بالتدريج تهميش القوات العسكرية التابعة للزمرة إلى جانب استبعاد معظم القادة والضباط والجنود الذين قاتلوا مع الحزب الاشتراكي، وما إن عاد الإصلاح إلى المعارضة عقب الانتخابات النيابية التي جرت عام 1997م بدأ صالح وحزبه في تقليم أظافره واستبعاد عناصره من الجهات الحكومية استعدادا للانفراد الكامل بالسلطة بعد أن تخلص من كابوس القوة العسكرية للحزب الاشتراكي!

العهد الثالث لصالح (1997 – 2012)

تحرر الرئيس علي عبدالله صالح من شريكي السلطة اللذان قيداه - كما يتصور - طوال سبع سنوات وهو أمر لا يطيقه، فاستعاد بذلك المساحة الكاملة للقرار التي يحب دائما أن يتمتع بها دون قيود، إلا أن المساحة امتدت هذه المرة لتتسع باتساع اليمن الموحد فقد كان آخر عهد صالح بالتفرد الكامل بالقرار مع آخر يوم قضاه رئيسا لليمن الشمالي، وهاهو بعد سبع سنوات كاملة يستعيده مجددا عقب انتخابات 1997م، وبالتالي كان من المفترض أن تنتهي كل الأعذار التي استند إليها دوما لتبرير الانفلات وضياع هيبة الدولة وغياب وحدة القرار السياسي وشكاوى كثيرة لم تنقطع عن أن شريكيه السابقين كانا دوما يضعان رجلا في السلطة ورجلا في المعارضة خلال فترة شراكتهما في الحكم... لكن ما الذي حدث عقب استعادة صالح القرار كاملا وتفرد حزبه بالسلطة كليا؟! بالتأكيد لم يحدث فرق كبير باتجاه الأفضل بل إن مساحة السلبيات التي كانت قائمة اتسعت وفي مقدمتها ظاهرة الفوضى العارمة التي استشرت في كل المجالات الأمر الذي جعل الرئيس صالح يتعهد عند تقديمه أوراق ترشيحه للانتخابات الرئاسية إلى مجلس النواب عام 1999م بالقضاء على ظاهرة الفوضى... لكنه إذ لم ينجح في الوفاء بتعهده فإن مظاهر الفوضى اتسعت وتعمقت وظل المشهد يزداد سوءا عاما وراء الآخر، وكما هو معروف فإن الفوضى نقيض النظام ونقيض هيبة الدولة ونقيض سيادة القانون، كما أنها في الوقت ذاته المرادف الطبيعي للفساد والمحسوبية ومعظم القيم السلبية... ولعل سبب ذلك كله أن صالح لم يمتلك أبدا رؤية جادة وحقيقية لبناء دولة مؤسسية وتغليب سيادة القانون، وحتى لو امتلك هذه الرؤية على صعيد الافتراض فإن تنامي مشروعه العائلي الخاص في الهيمنة على مفاصل الجيش والأمن بشكل أساسي كان سيتصادم مع هذه الرؤية الافتراضية إذ لا يجتمع هذا وذاك... ولهذا فكلما تصور أنه قطع خطوة جديدة في السيطرة الكاملة لعائلته على تلك المفاصل كان يقطع خطوة بالمقابل – دون أن يدرك – نحو التقريب من نهاية حكمه!

ومع بدايات خروج ما يمكن اعتباره مشروعا لتوريث صالح الحكم لنجله العميد أحمد إلى العلن شيئا فشيئا بدأت الصحف اليمنية المعارضة حزبية ومستقلة في شن حملة مضادة لهذا المشروع الذي كان ينمو على استحياء، وهو ما أدى بالمقابل أيضا إلى إحياء مشروع التوريث المستند على تراث الإمامة بقوة بعد أكثر من أربعين عاما على سقوط آخر حكم إمامي وراثي... فالتوريث الجمهوري المستند إلى القوة العسكرية وفرض الأمر الواقع لا يمكن أن يصمد أمام من يعمل على ذات المشروع العائلي بالاستناد على ما يمكن اعتباره حقا إلهيا مسنودا بنصوص دينية... وهكذا بدأ الصراع بين المشروعين عسكريا في صعده منذ العام 2004م ليمتد على مدى ستة أعوام وستة حروب هي الأكثر غموضا في تاريخ اليمن المعاصر، فلا أحد يعلم على سبيل الجزم واليقين كيف ولماذا كانت تلك الحروب تنشب وكيف ولماذا كانت تتوقف، ولماذا لم يكن الجيش يحقق فيها انتصارات واضحة ولماذا كانت سيطرة الحوثيين تتسع وتتمدد في مراحل الهدنة التي كانت تتم بين كل حربين؟!

كانت علامات ومؤشرات تحلل نظام صالح تتضح وتتعزز كل يوم وكل شهر وكل سنة منذ غرق في حروب صعدة التي تلاها ظهور وتطور الحراك السلمي في المحافظات الجنوبية وتلاه نجاح أحزاب المشترك في كسر هيبة صالح من خلال منافسته بقوة في الانتخابات الرئاسية الثانية عام 2006م فيما ظل هذا الأخير يحاول التغطية على كل ذلك من خلال استقطاب تعاطف الإقليم والغرب في معركته المفتعلة مع القاعدة... كل ذلك كان مصحوبا بتدهور متواصل في مختلف جوانب الأداء في الجهاز الحكومي دون أي إشارات أمل أو تفاؤل بإمكانية تحسن الأوضاع على المدى القريب أو البعيد... وكلما ازدادت الأوضاع تدهورا كلما برز المشروع العائلي الخاص وتراجع مشروع الوفاق الوطني، فتمكنت أحزاب اللقاء المشترك على إجبار صالح تأجيل الانتخابات النيابية التي كانت مقررة في إبريل 2009م بسبب إصرارها إما على مقاطعة الانتخابات أو تصحيح السجل الانتخابي وتوفير ضمانات جديدة لنزاهة العملية الانتخابية فاختار التأجيل... كان كل شيء يمضي بوضوح نحو نهاية محتمة قريبة لكن لا أحد يعلم كيف ومتى، وبدت هذه النهاية كأقرب ما يكون عقب حادثة الطالب النيجيري أواخر عام 2009م وما تبعها من عقد مؤتمر لأصدقاء اليمن في يناير 2010م وضعه لأول مرة تحت رقابة إقليمية ودولية كاملة في محاولة أخيرة للحيلولة دون وقوعه في خانة الفشل التام... وما إن قامت ثورات الربيع العربي حتى خرج الشارع اليمني ليهيل التراب على عهد صالح الطويل ويطوي صفحته إلى الأبد، وليكتشف اليمنيون أن ثلث قرن تم اقتطاعها من حياتهم وأعمارهم في ظل حكم رجل واحد غطى النقص المعيب الناتج عن انعدام رؤية بناء الدولة بموهبته السياسية ومرونته البالغة وسعة صدره وانفتاحه الدائم على خصومه السياسيين وقدرته الهائلة على تسخير كل إمكانيات السلطة لاستقطاب الولاءات وتفكيك القوى السياسية والاجتماعية.

عهد هادي

في 21 فبراير 2012م خرج اليمنيون بأعداد كبيرة لم تكن متوقعة لإعطاء أصواتهم لعبدربه منصور هادي كمرشح وحيد لمنصب رئيس الجمهورية... ما يقارب سبعة ملايين يمني معظمهم من أبناء المحافظات الشمالية خرجوا ذلك اليوم ليعطوا أصواتهم بكل حب لأول رئيس جنوبي يحكم اليمن الموحد ويعلقون عليه كل آمالهم في الخروج من نفق اللادولة الذي أرهقهم خمسين عاما دون أن يستطيعوا الخروج منه إلى رحاب دولة القانون وسيادته حتى اضطر الناس إلى الخروج في ثورة شعبية سلمية قادها شباب اليمن بحثا عن أمل جديد بعد أن تبددت كل الآمال في نظام الرئيس علي عبدالله صالح... ومع مرور الذكرى الخمسين لثورة 26 سبتمبر التي وضعت اليمنيين على أولى خطوات التغيير الجاد نحو حياة أفضل جاءت الثورة الشبابية الشعبية السلمية لتجدد روح ثورة سبتمبر وتحيي قيمها النبيلة وتبعث آمال اليمنيين من جديد في إمكانية بناء الدولة المدنية العصرية التي أصبحت الهدف الرئيسي للثورة السلمية... وبالتالي سيكون على الرئيس عبدربه منصور هادي مسئولية تاريخية في اتخاذ كل ما ينبغي من أجل الوصول بأهداف الثورة السلمية إلى بر الأمان، فلأول مرة يجد اليمنيون أنفسهم – رغم كل الصعوبات والمعوقات – يقفون بكل جدية أمام استحقاق بناء دولة القانون، فهم قد صبروا نصف قرن دون أن يتحقق هذا المشروع ولن يسمحوا بتضييع هذه الفرصة مجددا بعد أن قضوا على مشروع التوريث الجمهوري بعد خمسين عاما من القضاء على نظام التوريث الإمامي.


في الأربعاء 26 سبتمبر-أيلول 2012 11:17:59 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=17474