قطرة عطرٍ وقعت سهواً في مرحاض!
محمد العبسي
محمد العبسي

إنه الاستقطاب الكريه يغرز أظافره في ظهر الشعب الضحية. منذ الستينات ونحن نمرِّن سواعدنا على حمل الجنائز فلا سواعدنا قويت ولا حرص اليمني على قول "سلّم أجرك" بتموضعٍ يوشك على الانتهاء. والعلة أن قوى الشر تحسن التخفي في غير ثيابها. ففي ثوب فضفاض يدعى "الجمهورية أو الموت" تخفى في الستينات المماليك، ثم في ثوب "الوحدة أو الموت" تخفى وحدويو النفط ونهب الأرض. وفي ثوب "الدولة المدنية" التي نظّر لها الشباب والمثقفون بطيبة وصدق، يتخفى أبناء الدولة العائلية. 

"التاريخ في اليمن يتقدم بالريوس"! نفس الصراع القديم حول الأشخاص الخردة ومراكز القوى لا حول البرامج وقيم العصر وكأن قدر اليمنيين أن يصطفوا إما مع بيت الوزير وإما مع بيت حميد الدين! مع أحمد أو حميد. مع صالح أو علي محسن. الإصلاح أو الحوثي. الوحدة أو الانفصال. إيران أو اللجنة الخاصة. إما الوضع "الحاصل الناصل" أو الصوملة!

يمكن القبض على الرأي العام متلبِّساً بالاستقطاب السياسي في جميع النقاشات الجادة والهزلية في اليمن: فالذين أدانوا، أو دافعوا عن، ظهور قائد الحرس الجمهوري مع الرئيس على مأدبة إفطار هم الأكثرية. بينما من أدانوا جريمة تفجير مجلس عزاء بمدينة جعار قتلت 57 يمنياً أقلية صوتها غير مسموع! وبالله عليكم ما أهمية حدث متعلق بظهور شخص بالنظر إلى جريمة لم تسقط حرمة الدم فحسب بل وأسقطت حتى خُلُق اليمنيين في القتل.

نفس البالوعة وقع فيها الرأي العام بعد يوم فقط: إن الذين أدانوا، أو دافعوا عن، ظهور قائد الفرقة أولى مع الرئيس أثناء زيارة لقطر، أو ظهور توكل كرمان مع مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي قبلها، أو عناق عبدالوهاب الآنسي بنجل الرئيس السابق بعدها، هؤلاء هم الأكثرية الموجهة للرأي العام والمجتذبة لاهتماماته في مقابل قلة سوية من المستقلين ممن دافعوا عن 25 مليون يمني أهانتهم حملة التبرعات في مساجد الإمارات. لا يلام الإماراتيون. وحتى لو لم تطلب حكومة الوفاق ذلك كما تدعّي، فالأحرى أن تذكر نظيرتها الإماراتية بأن المساعدات تكون من حكومة لحكومة لا من شعب لجيب حكومة.

إن أردتم مَثَلاً خامساً فلاحظوا أن الذين أدانوا، أو برروا، زيارة د/محمد المتوكل للرئيس السابق واعتبروها خيانة لشهداء الثورة لم يتفوهوا بكلمة واحدة عند زيارة علي القيسي المعين محافظاً لمحافظة حجة بقرار جمهوري بعد الثورة! حسناً. مؤكد أن من نقموا على المتوكل وعلي سيف صمتوا عن القيسي لاستقطابات مذهبية كون الأخير عُين محافظ حجة لإيقاف المد الحوثي. هذا واضح. لكن ما ليس واضحاً ازدواجية الرأي العام والفيسبوك: أين ذهب الساخطون الناقمون الغاضبون بسبب عرقلة قرارات هادي في القوات الجوية واللواء الثالث؟ أليست كلها قرارات جمهورية بغض النظر عن الأشخاص؟ حتى جمال بن عمر لم يقل كلمة. ويبدو أن مجلس الأمن يلوح بالعقوبات ضد معرقلي قرارات هادي إن كانت في صنعاء فقط لا حجة. هذه "الخصخصة" النقدية تجعلني أطرش دماً.

حزنت كثيراً على الدكتور محمد المتوكل وهو ينقل، في لهجة المُصدق، عن الرئيس السابق أنه يساند الدولة المدنية فلعنت الموتور الذي جعله ينقلب على نفسه وماضيه المشرف! من يصدق أن شخصاً اتصل به صالح في عزّ قوته، قبل 14 سنة، للعودة إلى المؤتمر فرفض بكبرياء محارب ذهب لزيارته في عيد جلوسه وإن كانت زيارة حاكم نزعت سلطته فيها نبل وشهامة لو لم يكن صالح ولو لم يكن يوم 17 يوليو! من يصدق أن من صدق صالح اليوم هو ذاته السياسي الصريح الذي كتب في ذروة انشغال نظرائه قادة المشترك بحواراتهم مع صالح مقالاً لاذعاً بصحيفة الوسط استوحاه من قصة شعبية لرجل يتلذذ بالخداع والكذب، قاصداً الرئيس، وكان عنوانه (صدقتَ يا خُضعي)!

لا أضر بنا من تصدير قطبيات السياسة إلى حقوق الإنسان (وكأنها لم تصدر بعد!) فالطرفان اللذان أدان أحدهما وكذب الآخر، تعذيب 4 شبان في صعدة على يد مليشيا الحوثيين لم يتفوها بكلمة واحدة عند تعذيب جنود أمن مركزي في نفس الأسبوع 4 لاجئين إثيوبيين نصبوا خيام اعتصامهم منذ شهر أمام مصلحة الجوازات دون أن تُلتقط لهم صورة أو يعيرهم الإعلام اليمني اهتمام. نحن إزاء حدثين توأمين يفصل بينهما من حيث الزمن بضع أيام لكن قروناً طويلة تفصل بينهما من حيث الوعي والإنصاف الإنساني. اجتذب الحدث الأول اهتمام الرأي العام لأنه يقع في جاذبية الاستقطاب السياسي بين الحوثي والإصلاح، إيران والسعودية بينما لم يجتذب الحدث الثاني اهتمام أحد لأنه بدا كأشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب. كل المنظمات الحقوقية التي هاجمت الحوثي أو دافعت عنه وضعت القُطن في أذنها عدا واحدة، فيما تجاهل الشباب المعتصم بالساحات مشرّدين نصبوا الخيام مثلهم تحت الحر والمطر تأثراً بهم وإيماناً بقوة سلاح الاحتجاج السلمي!

نحن في بلد يدفع المرء للانقلاب على نفسه وماضيه أو ينقلب عليه المجتمع. فالصحفيون الذين حبسوا وضربوا ونكِّل بهم كالخيواني والمقالح وسبيع وسامي غالب وآخرين (لاحظوا أن من ذكرتهم جميعاً شماليون وهذا عمل العقل الباطن!) متهمون اليوم بالعمالة للنظام السابق! وممن؟ ممن خُتن ورضع وفُطم واشتد عوده في حضن النظام السابق! والإعلاميون المتذمرين لسنوات من القوى التقليدية (مشيخية ودينية وعسكرية) ويخطر ببالي عارف الصرمي ليس أمامهم خيار اليوم -إن أرادوا تقديم برنامج تلفزيوني لعامة اليمنيين- سوى أحد الأمرّين: إما العمل بسُكاتٍ في إحدى القنوات التالية (سهيل/ العقيق/ آزال/ اليمن اليوم/ المسيرة) وإما العمل بأجر أقل وجهد أكبر في قناة يملكها رجل مدني كـالسعيدة، وهي أنجح قناة يمنية، لكن عليه وقتها تحمّل تذاكي وشيطنة حامد الشميري، أو الالتحاق بـ"يمن شباب" دون محاولة معرفة كيف نزل مع الثورة وسيم القرشي بالبرشوت.

انظروا حولكم: ما الذي تغير؟ الحصانة التي شملت القتلة عاجزة عن إخراج الصحفي عبد الإله حيدر ومعتقلو الثورة من حبس صمم للقتلة واللصوص! والمهمشون السود همْ هم: "أخدام" قبل ثورتي سبتمبر والشباب وبعدهما، خارج الساحات وداخلها! والحلاق والجزار والقشّام وجميع المنتقصين، اجتماعياً وتاريخياً، بتسميتهم "مزاينة" همْ كما هم منذ قرون!

لنتخلى عن الكبر ونسأل أول شخص نصادفه بالشارع ما الذي حققته الثورة؟ لا تقولوا لي إن كل تلك الدماء سالت من أجل نصف حكومة ونصف درزن مستشارين لرئيس بدأ بقوة واقتدار! هذا والله أشبه بقراءة سورة ياسين في حفل زفاف!

اليمن هي اليمن. قبل أن أضطر لترك عملي كمحرر أدبي في صحيفة الثورة عام 2007 كنت أمشي مساء من جولة الساعة بالحصبة إلى البيت فأمر بمنزل الشيخ عبدالله ومرافقوه يلعبون الدمنة أمام البوابة، وبعد 200 متر أمر بمحوى وعشش المهمشين السود على ضفتي السائلة المنتنة. كنت ألحظ دائماً، وبشكل عفوي، ضوء لمبة "سهاري" حمراء تنبعث من أحد بيوت الصفيح القريبة من الشارع. ليلة أمس مشيت من هناك فرأيت الدمار يشخص ببصره نحوي واستنشقت الرعب مع كل ذرة هواء في الحصبة. أظن النمل نزح كلياً عن الحصبة. توقعت رؤية عدد أكبر من مرافقي الشيخ كعنوان للمرحلة. وحزنت حين لم أرى ضوء اللمبة التي لطالما نقرت حدقتا عيني من مسافة بعيدة! ربما دمرت في حرب الحصبة أو لعلها انتحرت بعد الثورة! فجأة تذكرت أمي وأختاي وأخي عادل وكدت أبكي. وصلت البيت مغموماً ويائساً على غير العادة، وفي داخلي شعور أن ما جرى طوال عام ونصف شبيه بقطرة عطر وقعت سهواً في مرحاض!

Absi456@gmail.com


في الأحد 12 أغسطس-آب 2012 10:23:55 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=16862