أزمنة المد والجزر الحمراء
د.مروان الغفوري
د.مروان الغفوري

العنوان هو مصطلح يستخدمه علماء الجيولوجيا، تحديداً المهتمون بأبحاث الطاقة الأحفورية. تقول الفرَضية إن انتشار اللون الأحمر على سطح البحيرات والبحار في بعض أشهر العام يأتي بسبب متعضيات مجهرية "ميكرو-أورغانيزم" طافية على السطح. وأن غالبية هذه المتعضيات المجهرية تكون ميّتة بسبب شحة الأكسجين. أما شحة الأكسجين، وريد الحياة، فسببه انتشار الطحالب بكثافة وهيممنتها. وللطحالب شهية فائقة للأكسجين. المشهد النهائي كالتالي: المد الأحمر على السطح.

دعونا ننسَ هذا المدخل العلمي تماماً، ونتجاهله. بالعودة إلى السطح، ففي لقائه الأخير مع قناة البي بي سي ركز الشيخ حميد الأحمر، كعادته، على ما يعتقد أنه الخطأ القاتل الذي ارتكبه صالح. فالمسألة اليمنية تتعلّق، بالنسبة لحميد الأحمر، في إصرار صالح على إزاحة "العقلاء" وفي مقدمتهم، بالطبع، "الوالد رحمه الله" بتعبير حميد. في الواقع: تبتدئ الكارثة، في مرئيات وروايات الشيخ حميد، من اللحظة التي قرر فيها صالح أن يتجاهل "الوالد رحمه الله". وهي تلك اللحظة التي كانت قد نالت فيها اليمن عن استحقاق موضوعي عضوية "الدول العشر الأكثر فشلاً في العالم". أما عندما تخلى صالح عن نصائح "الوالد رحمه الله" فقد راوحت اليمن مكانها ضمن "الدول العشرين الأكثر فشلاً في العالم". ولا تزال في المكانة نفسها، حتى بعد أن أصبح أولاد "الوالد رحمه الله" يقدمون مقترحاتهم العميقة حول الدولة الثورة والمدينة.

لقد مرت فترة ليست بالقصيرة كان فيها "الوالد رحمه الله" قريباً جدّاً من القصر، وكان المسخ يصيخ السمع والوجدان له. هكذا يعترف الشيخ حميد بن "الوالد رحمه الله" ضمنيّاً.

عندما يتحدث الخبراء حول التاريخ اليمني المعاصر فإنهم لا يجدون في تلك الفترة، زمن قرب العقلاء وفي مقدمتهم "الوالد رحمه الله" من عقل صالح، ملامح نهضة على أي صعيد. دعونا نضغط على الأعصاب العارية للشيخ المثقف حميد الأحمر: في تلك الفترة الذهبية، عندما كان "الوالد رحمه الله" يزخ أفكاراً وتصورات حول الممكن والمستحيل كان الشعب اليمني واقعاً في مجمله خارج الساقية والسياق، وكانت اليمن زرقاء الشفتين والأصابع تموت في القيعان. وربما كان حميد الأحمر، على الصعيد الشخصي، يعيش فترة نمو على أي مستوى، نمو نوعي وجاد بصرف النظر عن إحساسه الإنساني الرفيع بألم وطنه. وربما كان مثل هذا النمو بسبب الأفكار العميقة للوالد رحمه الله، أكثر من كونها تجليات لعناصر موضوعية متفوقة. كتبت في رسالة نشرتها على صفحة "الوادي" في الفيس بوك إلى الشيخين حميد الأحمر ومحمد عبداللاه القاضي:

عزيزي حميد الأحمر، قبلك كان مناضل شاب، من أهل الدثور، اسمه "محمد عبد اللاه القاضي" يستعرض على اللاب توب الخاص به جرائم صالح المالية. كانت أجواء فندق "فور سيزونس" ساحرة بينما يستعرض القاضي الشاب بيانات صفقة الغاز.سأله أحد الحاضرين بأدب جم: ولكن، أنت أيضاً جنيت ثروة طائلة من داخل نظام صالح؟ حاول أن يتجاهل السؤال، ثم عاد إليه بثقة: بعرقي جهدي.

ونحن، أبناء البطة السوداء وأولاد وحيد القرن، نزفنا من العرق ما يكفي لتحريك ثلاث ناقلات من سفن الثائر الثري "العيسي" الهاربة بالديزل، والصندل الذكري! وبذلنا من الجهد ما يكفي لبناء ثلاثة أرباع سور الصين العظيم. ولدينا عقول تكفي لتحريك قمم الجبال بالإيحاء. لكننا، رغم ذلك كله، لم نجنِ من الحظ شيئاً، يا مالكي العقول والجهد والعرق المحظوظين، لوحدكم.

كان توماس فريدمان، قبل ثلاثة أعوام، يحتفي بمقولة فيلسوف أميركي معاصر: أدين بالفضل، لكل ما أنا فيه، لأميركا. لقد ولدتُ هنا حيثُ تكافؤ الفرص وحيث الطرق اللانهائية للنجاح. ولذلك فإنه لزام عليّ أن أسلّم أميركا إلى الجيل الجديد كما استلمتها. وبلا أدنى فرصة للجدل يمكننا القول، نحن الجيل الجديد، إننا كل ما نحنُ فيه من البؤس واليباب هو بسبب الحالة التي كانت عليها اليمن عندما ولدنا. أعني، في تلك الأيام التي كان فيها "الوالد رحمه الله" مع لفيف واسع من "الوالدين رحمهم الله" يديرون البلد. ولذلك فإنه لزامٌ علينا أن نسلّم اليمن لأجيالنا الجديدة على النقيض تماماً من الحالة التي ورثناها. إن مهمتنا المقدسة تقتضي أن نفر باليمن إلى الأيام الخضر، وأن لا نتذكر أمامها أيام "الوالد رحمه الله" لأنها لم تكن الأيام الحلوة، كما سيكتب التاريخ بالفونت العريض.

مرة أخرى: في الواقع يحزن، وينفعل، أي رجل أعمال عندما تسوء معايير الحكم ويدخل البلد في الفوضى. ليس للأمر علاقة عضوية بالفضائل، بل بنظر رجال الأعمال إلى المواطنين بحسبانهم "مستهلكين". سينظر رجال الأعمال إلى الحكم الفاسد بحسبانه عملية إفقار واسعة للجماهير، بما يعني في الأخير: حرمان الشركات من مال المستهلك. هل كان الشيخ حميد الأحمر يفكّر على هذا النحو وهو يتصدر لمجابهة عائلة الطغيان؟ في الواقع ليس من الصعب تأكيد مثل هذه الفرضية، لكن أصعب منها هو محاولة نفيها. على أن المواقف، غالباً، تصنعها شبكة غير متجانسة من الدوافع. وغير من المنهجي استبعاد وجود دافع أخلاقي، ربما طاغٍ أيضاً، يتحكم في صياغة الموقف السياسي النهائي للشيخ حميد الأحمر. لكننا ما إن نكاد نفهم الدافع الأخلاقي، المغذى إيديولوجياً، لدى الشيخ حميد الأحمر حتى يحاول أن يرغمنا على العمل معه في السيمفونية الرعوية الشهيرة: الوالد رحمه الله.

يقال، في التاريخ، أن أبا المسلم الخرساني قال للمنصور: أتقتلني وقد فعلتُ لدولتك ما فعلت؟ رد عليه أبو جعفر المنصور: إنما فعلت ما فعلت في دولتنا. ولو أن جارية سوداء أعطيناها من القوة ما أعطيناك لفعلت مثلما فعلت. يمكن لحزب الإصلاح، وللجيل الجديد تحديداً، أن يرد على ادعاءات الشيخ حميد حول دوره العظيم في نسف أركان مملكة صالح: إنما فعلت ما فعلتَ بقوتنا.

إن تقييم حميد الأحمر للمسألة اليمنية، إذ يقيس جودة الحكم من عدمها بمدى الحصار المفروض على نشاطه المالي وهو سيسميه حميد دائماً بالانفراد بالسلطة، لا يعني الثورة في شيء. إذ هو مجرد تمرئٍ بسيط لمرويّة قاسية، بلا ضفاف. غير أن المثقف الشيخ حميد عندما يتحدث عن الرئيس الجنوبي كضرورة فإنه لا يربط ثقافياً ومنهجياً بين خروج الجنوبي عن الشراكة في السلطة وبين اللحظة التي تخلى فيها صالح عن "العقلاء". لا أدري لماذا لا يفعّل حميد صفة "العقلاء" لتكون شاملة لشركاء الوحدة أو لحزب الإصلاح الذي غادر صالح في النصف الثاني من التسعينات. وكيف تصبح مغادرة "الوالد رحمه الله" لقصر الملك المسخ هي لحظة انقطاع الحضارة اليمنية الحديثة وبداية انهيارها. في حين لا تبدو حرب 94م في التصور الكلي لدى الشيخ حميد هي نقطة اللاعودة؟ غير أن حميد يتركنا في منتصف الطريق دون أن يعرض علينا، بصورة واقعية، تلك اللحظات الفارقة التي تدخل فيها "الوالد رحمه الله" لدى عائلة الطغيان للحيلولة دون اهتزاز النظام الاجتماعي أو الأمني .. إلخ.

رحل الشيخ الأحمر وترك أبناءه أثرياء، وذوي حضور معنوي طاغٍ. لم يؤلف كتباً ولم يخترع نظرية في الدولة أو الثورة. لقد كان رجلاً يمنيّاً في الواجهة، ذا موقف قومي وأخلاقي رفيع. كان الأحمر الكبير يمنياً في كل خصائصه، حريصاً على أن لا تتفاقم المشاكل، يعمل على أن لا تنهار الشبكات الاجتماعية والنظام الحزبي. في الآن ذاتِه: لم ينشغل بسؤال: كيف نعمل على أن يكون الواقع أفضل؟ لم يتسبب في نهضة اليمن، بل عمل على إبطاء موتها العلني. يمكن فهم وتفهّم ذلك في سياقه التاريخي، بالطبع. غير أن الحديث عن أيام "الوالد رحمه الله" بحسبانها السبع السمات التي أكلتهن السبع العجاف فيما بعد فيه استفزاز عنيف لأخلاقيات ومنطق وحركة الثورة الراهنة. أعني: الثورة الوحيدة في تاريخ اليمن منذ 140 مليون سنة. أي منذ تلك المدة الزمنية التي بدأ فيها نفط المسيلة يتشكل بفعل المتعضيات المجهرية والطحالب والصخور..

عاش "الوالد رحمه الله" أوقاتاً عصيبة في زمن السياسة اليمني، لكنه لم يأكل "الخبز الحافي" مثلنا. وحتى عندما منعه الغشمي من دخول صنعاء، في فترة حكمه، فقد أعطاه فرصة كافية للاستعداد لدخولها على طريقة الفاتحين يوم مقتل الغشمي. أعطى جل وقته لليمن، لكن اليمن أعطى أفضل ما فيه له: الحضور المعنوي "الاعتراف بالفضل والتميّز" وهي أقدس أحلام الإنسان، أو الثيموس كما يسميه أفلاطون. وكذلك أعطاه اليمن: المال. هذه العملية التبادلية سيقبلها، بحماس، أي بشر على كوكب الأرض. أنا، على سبيل المثال، لا أمانع أن أكون "الوالد رحمه الله" إذا كنت سأحوز كل تلك الدنيا الناعمة والمريحة. على الأقل سوف لن يكون علي أن أنتظر حتى السنة الرابعة في كلية الطب لكي أتعرف لأول مرة على معنى كلمة "مكدونالدز". وعندما كنت في السنة الخامسة في كلية طب عين شمس اكتشفت أن لوفتهانزا هي شركة طيران وليست وجبات سريعة.

سأختتم مقالتي بالجزء الأخير من رسالتي إلى الشيخ حميد الأحمر:

" لا تحدثونا عن عرقكم، لأجل الله. فهو ليس عرق السيد المسيح ولا السيدة العذراء. وأنتم لم تكونوا يوماً عمالاً مجهدين تنامون على كرتونة تحت منارة مسجد مهجور. فقبل ثلاثمائة عام اهتزت أوروبا عندما سمعت حقيقة جديدة تعلمها يقيناً لكنها لم تسمعها قط. من على مسرح فرنسي صرخ ممثل شاب بممثل آخر ضمن النص المسرحي: ما معنى إنك نبيل. إنك فيما سوى مولدك لست أفضل مني في شيء.

لقد كان صالح سيئا بلا نهايات. ليس لسوئه ضفاف، وليس لإجرامه ملامح. أما العقلاء الذين هجرهم في منتصف الطريق لأجل العائلة فقد كانوا، عندما ينصحونه، يحدثونه عن أمور كثيرة ليس من بينها الإشارة إلى قلة حيلته وفقدانه للصلاحية. وهذه الواقعية التاريخية ليس لدينا الوقت الكافي للجدل حولها.

المستقبل، الزمن الجديد، ملكية لأولئك الذين فجّروا ينابيعه وحيدين، في ليلة مقمرة. ذلك عندما تاه "العقلاء" في منتصف الطريق، أو أوّله. وتحول التاريخ اليمني إلى مرثّية بلا عتبات."..

ونحن، صدقوني، لن نكون أبداً أولئك الذين أيقظوا الذئب ثم ناموا.


في الثلاثاء 28 فبراير-شباط 2012 03:36:34 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.net/articles.php?id=14149