فبراير.. ذكرى الحلم والسلمية
بقلم/ بشرى المقطري
نشر منذ: 6 سنوات و شهر و 9 أيام
الجمعة 16 فبراير-شباط 2018 10:22 ص
 

تحل الذكرى السابعة لثورات الربيع العربي، في ظل استمرار حالة العنف التي عصفت بمجتمعاتها، وحرفت الثورات عن طابعها السلمي. امتازت الثورات في مراحلها الأولى بتبني شبابهاشعارات سياسية واجتماعية، أو اعتسافهم شعارات براقة أثبتت التطورات اللاحقة أن أول من ضحّى بها هم قوى الثورة. في الثورة اليمنية، شكلت "السلمية" شعارها الذي صُدرت به إلى العالم، ليصبح من توصيفها الدارج، إلا أن سياقات هذه الثورة تدل على أن السلمية لم تكن جزءاً أصيلاً من هوية الثورة، فالقصدية في تأكيد معظم قوى الثورة اليمنية على سلمية الثورة جاء سابقاً لانتهاجه باعتباره خيارا واعيا لعملية التغيير، كما أن تعاطيها في الواقع الثوري، سواء مع حلفائها في الثورة أو فصامها بين النهج والممارسة، تدل على افتقارها الإيمان بالسلمية آلية للتغيير، لكن تبنيها السلمية شكل قطيعة تاريخية مع أشكال التغيير التي انتهجتها القوى السياسية والاجتماعية في اليمن على مدى تاريخها، حيث ميز معظم احتجاجاتها الطابع العنفي، سواء في محاولتها فرض استحقاقاتها السياسية على السلطات اليمنية المتعاقبة، أو من أجل التلويح بمطالبها، كما مثل خيار السلمية تحدياً حقيقياً لطبيعة المجتمع اليمني القبلي، خصوصا في شمال اليمن الذي يحتفي بالقوة، والذي يشكل أهم تمظهراته استخدام السلاح ضد الدولة اليمنية. 
حرصت قوى الثورة على تبني الخيار السلمي لتغيير التوازنات الاجتماعية والسياسية التي حكمت المشهد اليمني عقودا، بما يؤدي إلى إسقاط نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، فضلاً عن سحب البساط عن هذا النظام، وإحراجه أمام المجتمعين، المحلي والدولي، وحقق  "عوامل كثيرة تضافرت لحرف الثورة اليمنية عن طابعها السلمي"انتهاجها الخيار السلمي عدة نتائج مهمة، إذ صدرت إعلامياً ثورة بيضاء، وكان لذلك أثر حاسم في تخلي الإعلام الدولي عن تعاطيه الشأن اليمني بالمقاربة الأمنية لبلدٍ مصدّر للإرهاب العابر للحدود، كما عُزل نظام صالح دولياً لاستخدام أجهزته الأمنية القوة المفرطة تجاه المتظاهرين السلميين. من جهة أخرى، استقطب النهج السلمي للثورة أطيافا واسعة من المجتمع اليمني التي كانت تخشى العنف المصاحب للثورات، إلا أن الانعطافات الحادة التي دخلت فيها الثورة بعد ذلك، بما في ذلك دفع نظام صالح لقوى الثورة إلى مربع العنف عبر التنكيل بالمتظاهرين، أكدت أن قوىً أخرى كثيرة في الثورة أدركت أن التغيير السلمي في مجتمع يمني سوف يستقطع استحقاقاتها السياسية الآنية والمستقبلية. وبالتالي، عملت بكل قوتها على تجريف أهم عوامل تفرد الثورة اليمنية. 
تمنحنا دراسة أسباب فشل الخيار السلمي في الثورة اليمنية مفاتيح لفهم التحولات السياسية التي شهدتها الثورة فيما بعد، والتي انعكست على مآلاتها المستقبلية، كما تعطينا تصوراً عن صلابة التوازنات السياسية والاجتماعية التي وسمت المشهد اليمني، والأهم هو إدراك طبيعة القوى السياسية التي كانت جزءا من الثورة، وتصدرت الحرب الحالية، إذ تؤكد كل تلك المسارات التي قطعتها هذه القوى من السلمية إلى العنف المسلح فشلها في تحقيق وجودها السياسي خارج بنيتها العنفية المتأصلة، فعلى الرغم من استبسال بعض قوى الثورة بالتمسك بالخيار السلمي لتغيير توازنات المشهد السياسي في أثناء الثورة، أو على الأقل إرباكه بما يؤدي إلى خلخلة أرضيته، لصياغة نظام سياسي واجتماعي مغاير للقديم، يقوم على المساواة وتكافؤ الفرص، إلا أن عوامل كثيرة تضافرت لحرف الثورة اليمنية عن طابعها السلمي، بعضها بنيوي متأصل في قوى ثورية التحقت بالثورة مرغمةً، وبعضها كامن في أداء بعض قوى الثورة، وكذلك في وعي قوى الثورة، خصوصا الشبابية منها، فقد حاولت بعض القوى تحييد طابعها العنفي، عبر تقديم نفسها قوى سلمية، لمواكبة المزاج السائد في بداية الثورة أكثر منه إيماناً بالمبدأ السلمي للتغيير، فيما طغت على بعض القوى حالة الفصام بين خطابها الإعلامي المنحاز للسلمية وأدائها في الواقع، إذ استخدمت القوة في ساحات الثورة ضد حلفائها، وشكلت ذراعاً عسكرية تابعة لها لتغيير موازين القوى في الثورة وإرهاب حلفائها، فيما اكتفت قوى أخرى بالخيار السلمي، من دون تجذيره في محيطها المجتمعي، في حين تميزت معظم القوى الشبابية بنفسها القصير لاعتقادها أن النهج السلمي سيحقق مكاسبها الثورية سريعاً، فضلاً عن استمرار نظام صالح في تصعيد عنفه ضد المحتجين، ليصبّ، في النهاية، مع العوامل الآنفة في إسقاط خيار السلمية باعتباره خطابا سياسيا لقوى الثورة، وكآلية للتغيير، لتصبح القوة والعنف المعيار الوحيد لإحداث اختراق للسلطة الهرمية أو تغييرها. 
لم يكن انضمام قائد الفرقة الأولى مدرع، اللواء علي محسن الأحمر، إلى ميدان التغيير في  "تخلي معظم قوى الثورة عن الخيار السلمي، بما فيها القوى الشبابية، يثير اليوم أسئلةً كثيرة بشأن مدى فعالية الشعارات الثورية وجديتها"العاصمة صنعاء، وامتلاك الثورة جناحها العسكري، سوى المشهد الأخير لعسكرة الثورة وانتهاء مرحلة السلمية، إذ حدد ذلك مناطق التماس بين نفوذ صالح وعلي محسن الأحمر في مدينة صنعاء برمتها، ليبدأ توازن الرعب سياسة ستنتهجها القوى السياسية اليمنية طوال المرحلة الانتقالية لفرض شروطها على القوى اليمنية الأخرى، كما أسهمت عسكرة الثورة في فرض توصيف إقليمي ودولي على الاحتجاجات في الشارع اليمني، باعتبارها أزمة سياسية بين فرقاء سياسيين، وكان سبباً رئيساً في إخراج المبادرة الخليجية حلا وحيدا للأزمة اليمنية. 
مثل سقوط خيار سلمية الثورة بصورة درامتيكية وسريعة، بعد أقل من شهرين من انطلاقها، خيبة أمل لملايين اليمنيين الذين آمنوا بالسلمية آلية للتغير السياسي والمجتمعي، وحلموا، ربما بمثالية، بأن يتم الانتقال السياسي بسلاسة، إلا أن تخلي معظم قوى الثورة عن الخيار السلمي، بما فيها القوى الشبابية، يثير اليوم أسئلةً كثيرة بشأن مدى فعالية الشعارات الثورية وجديتها، وهي الشعارات التي تبنتها قوى الثورة خيار السلمية، كما يعرّي القوى السياسية اليمنية التي شاركت في الثورة، إذ فرضت هذه القوى منطقها التقليدي بشأن عدم فعالية السلمية في المجتمع اليمني. 
عزّز سقوط السلمية خطابا سياسيا وآلية للتغيير من خيار القوة في المجتمع اليمني، ومنح القوى المليشياوية الدينية على اختلاف مذاهبها، مثل تنظيم القاعدة وجماعة الحوثي، وكذلك الأحزاب المعسكرة، حافزاً لفرض إرادتها بالقوة على اليمنيين عن طريق اللجوء إلى العنف المسلح، ليتحوّل السلاح في مشهد الحرب الحالية ليس فقط إلى أداةٍ بيد الفرقاء اليمنيين وحلفائهم لتحقيق انتصاراتٍ عسكرية، وإنما وسيلة تستخدمها اليوم أطياف واسعة من المجتمع لتنفيذ مطالبها، وامتدت إلى مدنٍ لم يكن العنف المسلح جزءا من ثقافتها أو تقاليدها.