نقوش من الحياة.. أنموذج من مآسي الدعاة إلى الله في اليمن
بقلم/ حسن الحاشدي
نشر منذ: 6 سنوات و شهر و 6 أيام
الثلاثاء 20 فبراير-شباط 2018 09:49 ص


إهداء
إلى الداعية الذي يلعق جراحه بصمت
--------------------------------------

قال لي ذات يوم ونحن في جلستنا الإعتيادية في مسجدنا
ما بين مغرب وعشاء وقد بدا كغير عادته اليومية متماسكاً ضاحكاً:
"منذ وقتٍ طويلٍ لا راتب من الدولة كما تعلم، وتوقفت كفالتي كداعية كنت اتقاضاها من إحدى المؤسسات الخيرية الدعوية وهي المؤسسات التي توقفت عنها كفالات لدعاة بالآلاف رجالآونساء وفتيات ولذلك توقفت الاف المناشط الدعوية والحلقات القرآنية بل حدث شلل دعوي واضح واصبحت المساجد ودور القرآن جنباتها تئن ومحاريبها تشكو إلى الله شحة ماحل بها.

حاولنا أن نتجلد ونصبر ولكن طالت الحرب وطالت، نحن في حرب تتلظى وحصار قاتل، وأيامٍ ذات مسغبة".

اغرورقت الدموع في عينيه وبصوت متهدج قال: "نحن الدعاة والداعيات والكثير من المشايخ الأجلاء
في اليمن - بمختلف -مسمياتنا
لا يلتفت إلينا أحد، يتم التسويق لإغاثات لشرائح مجتمعية مختلفه المسميات
نازح، مدرس، طبيب، أستاذ جامعي، ووو... الخ
نحن نتجلد ولأننا قدوات في المجتمع يمنعنا مكتنزنا القيمي
من التشكي او الاستغاثة لطلب نجدة، أو إظهار جزعنا واحتياجاتنا، فانعكس ذلك في دواخلنا بمراجل تغلي وآهات تنفث، وضيق انعكس على أسرنا وأولادنا فمنا من طلق زوجته، ومنا من هو على ابواب الاكتئاب، ومنعزل لوحده، أهمل ذاته ومن يعول، ومنا من تركته زوجته وأولاده وحيدا لتلتحق بأهلها ومنا من هُتِك سترُه وتم طرده من بيته، من قبل المؤجر
ومنا من باع أثاث منزله كل يوم قطعة، ومنا من يخرج بمواعينه عله يجد صاحب مطعم يقرضه وجبة غداء، ومنا من لم يمتلك (دبة) غاز في بيته منذ أكثر من عام، بل ومنا من جاهد لدحر جحافل الحوثي والحرس في أكثر من موقع وجبهة ولم يتم ترقيمه في الجيش الوطني!! ".

يتحدث وعيناه تُعمّدان حديثَه بدموعِ الانكسار، تتساقط بإنسياب فوق لحيته الوضاءة لتسير في أخاديد حفرت كما يبدو طريقها في وجهه الشاحب
منذ ما يزيد عن ثلاثة أعوام، هي عمر الحرب والحصار.

أستمع إليه ووجداني يعتصر ألماً، وعقلي لا يتصور أن يرى رجلاً بهذا الوقار والرصانة والمهابة بهذا البوح المنكسر

لطالما جَهَد لينشر النور لمن حوله عبر محاريبَ
عرفته في أكثر من حي وقرية
في مدينة تعز الصامدة.

قلت له: ما عساي أن اقول لك! لا أملك إلا قلمي لأخط قصتك الحية، وألفت الانتباه لمن كان له قلب أو صاحب اهتمام أو مؤسسة مختصة وضامنة، فالأمر لا يقف عندك، بل يهم كثيراً من الدعاة و القراء وحفظة كتاب الله ومحفظيه وأئمة المساجد والخطباء ومن يقومون بأمر واحتياجات تلك المساجد لتستمر المحاريب صادعة: بقوله عزوجل
(لا خيرَ في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ او معروفٍ او إصلاحٍ بين الناس) الآية
وقوله (ومن أحسن قولاً ممن دعى إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) الآية.

لا بُدّ أن ينكسر في داخلك شيء ما لتحيا من جديد. لا بد لك أن تسمع قرقعة حطام نفسك لتستعيد عافيتها المتأرجحة: تارة محلّـقة في السماء وتارة غارقة في إحدى سراديب الحياة التي نصنعها بأيدينا ، نغرق أنفسنا في الظلام عمداً، نكبّل أنفسنا بقيود تافهة (اجتماعية،
سياسية، اقتصادية...) ثم نصرخ بأعلى صوتنا مُشيرين بأصبعنا نحو الحياة إنّها خذلتنا وأفرغت قسوتها علينا !
لماذا نصبح تافهين عندما ننكسر؟
نغيب عن سمع الحياة
تعرّينا الانكسارات تكشف لنا مدى هشاشتنا، ضعفنا، رخاوة صمودنا، أمام منعطفات الحياة الصعبة، والشائكة تظهرنا طيورا منكسرة الأجنحة، رصاصة قدر قاتلة حطّمت أداة حريّتها.
إن إرادة الحياة هي،لا مبالاتنا بشغف العيش وأحلامنا هي سبل استعادة حيويتنا، هي من سيسقينا رشفة الحياة لنحيا من جديد.

ليس على فاقد الأمل حرج،أن يقرع كل طرق ووسائل استعادته لنفسه إذا كانت مباحة له. لا قوانين بشرية تقف كحاجز منيع أمام إحياء نفسه واستعادة أمله.

وإلى حين وصولك إلى هدفك سيعركك القدر وستلوكك الحياة مراراً وتكراراً.
حتى يصبح صدرك ضيقا حرجا.
لكن بعد ذلك الصراع
العنيف نفسيا وجسديا
ستقوى ويشتدّ عودك وسوف تظهر بمظهر يليق بك
ستظهر القوي الصّلب الذي لن تهزمه بعد شدائد. سيتحرّك في داخلك سكونك القاتل الهادم لذاتك ولإرادتك المنكسرةوستقتفي أثر أحلامك وتحقّقها رغم أنف من أراد تحطيمك من قوى الحرب والحصار أو من مخلفاتهما من آفات صبغت نفوسا حية خيرة لتصبح متبلدة المشاعر ومغيبة من هول كثرة المآسي وطلبات الإغاثة والنجدة.

ختم رفيقي حديثه بقوله على استحياء:

ولا بُدّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ
يواسيكَ أو يسليكَ أو يتوجعُ

ولم يقطع حديثنا
إلا النداء الخالد لصلاة العشاء.